الأخبار

رمزي الغزوي : السفر لا يصنعُ المعنى دائماً

رمزي الغزوي :  السفر لا يصنعُ المعنى دائماً
أخبارنا :  

لا أحد يعود من السفر كما كان. ليست المسافة ما يغيّرنا، بل ما نواجهه من أسئلة في الطريق، وما نتنازل عنه من أوهام، وما نكتشفه من ملامحنا الضائعة. نحن لا نغادر أوطاننا حين نسافر فقط، بل نغادر ذواتا أقمناها من عادات موروثة، ومن أفكار لم نختبرها، ومن يقين كان ينتظر الرحلة ليبدأ بالتشقق.
السفر، في جوهره، تجربة فلسفية. لا يعني التنقل بين مدينتين بقدر ما يعني الانتقال من وعيٍ إلى آخر. هو تمرين على التخلّي، وعلى الإصغاء لما هو خارج عن إطار الذات. فحين نخرج من «زمن العادة» وندخل في «زمن التجربة»، يصبح لكل لحظة طعمها الفريد، لا لأن المدن مختلفة، بل لأننا نراها بأعينٍ لم نكن نملكها قبل الرحيل.
ليس كل من يركب الطائرة مسافرا. ثمة من يقطع القارات ولا يخطو خارج أسوار ثقافته، وهناك من يجلس في ركن صغير من العالم ويجوب الكون بعقله وروحه. فالحقيقة أن الغيرية شرط السفر، والانفتاح على الاختلاف هو بوابة التحول.
في زمنٍ باتت فيه الرحلات محتوى بصريا لا تجربة داخلية، وُلد شكل جديد من «السفر الذاتي»، حيث الغاية لا تتجاوز «اللايكات» وإبهار المتابعين. هكذا ننتقل كثيرا، لكننا لا نتحوّل. نُراكم الصور، ونفتقد الرؤى.
في المقابل، كان المسافرون قديما فلاسفة مجهولين. ابن بطوطة لم يكن سائحا، بل جامعا لأطراف العالم في دفترٍ واحد. الجاحظ فهم أن الرزق والمعرفة لا يُقيمان في الدعة، بل في الرحلة، وأن الغربة لا تنفي الإنسان عن ذاته، بل تعيده إليها من طريق آخر.
السفر لا يصنع المعنى دائما، لكنه يكشف هشاشة المعاني الموروثة. هو اختراقٌ لطمأنينة زائفة، واحتكاكٌ بعالم لا يتقن المجاملة، ولذلك فهو درس قاسٍ أحيانا، لكنه صادق وحاذق.
هل يمكن للسفر اليوم، وسط طوفان السرعة، أن يستعيد طهارته الأولى؟
هل لا يزال هناك من يسافر ليكتشف لا ليُعرض، ليسأل لا ليُجيب، ليتغير لا ليتباهى؟ ربما آن الأوان لأن نعيد النظر في الطريقة التي نسافر بها... وفي ما نأمل أن نعود به. ــ الدستور

مواضيع قد تهمك