د . صالح ارشيدات يكتب : نحو سردية عربية جديدة: تفكيك الرواية الإسرائيلية وبناء رواية إنسانية

منذ اندلاع العدوان الأخير على غزة، بدت ملامح تحوّل حقيقي في الخطاب العربي تجاه القضية الفلسطينية. إذ قادت الدبلوماسية العربية، وعلى رأسها الأردن والسعودية ومصر، إلى جانب القيادة الفلسطينية، حملة إقليمية ودولية واعية نجحت — لأول مرة منذ عقود — في نزع قناع الضحية عن الرواية الاسرائيلية، وكشف طبيعتها الاستعمارية والإحلالية أمام العالم.
هذا التحول لم يكن مجرد تصعيد دبلوماسي تقليدي، بل جاء في إطار سردية عربية جديدة، تتسم بالعقلانية، وتتوسل أدوات القانون الدولي، وتخاطب الضمير العالمي من بوابة العدالة والإنسانية.
*من عقلانية أردنية إلى يقظة فلسطينية
اللافت في هذا التحول أن القيادة الأردنية، بقيادة جلالة الملك عبد الله الثاني، انتقلت من الخطاب العاطفي إلى خطاب مؤسسي موثّق، يستند إلى قرارات الأمم المتحدة، وتقارير المنظمات الحقوقية الدولية، وشهادات الناجين. في الوقت ذاته، لم يكن الفلسطينيون متفرجين، بل قادوا معركة إعلامية غير مسبوقة من داخل الميدان، مستخدمين وسائل التواصل الاجتماعي، والفيديوهات الميدانية، والشهادات الشخصية، لتوثيق الجرائم وفضح التضليل الإسرائيلي.
لقد أصبح صوت الفلسطيني اليوم مؤثرًا ومرئيًا وموثقًا، ولم يعد مقصورًا على النخب، بل متاحًا لكل ضمير حي في هذا العالم.
*أوروبا تفتح عيونها: ماذا تغيّر؟
شهدنا لأول مرة انحرافًا في المزاج الأوروبي الرسمي والشعبي، من موقف دفاعي عن إسرائيل إلى تساؤلات أخلاقية وحقوقية. برلمانات في دول مثل إيرلندا، بلجيكا، إسبانيا والنرويج بدأت تنتقد الانتهاكات وتدعو لمحاسبة إسرائيل، بل واتجهت بعض الحكومات للاعتراف الفعلي بالدولة الفلسطينية.
هذه التغيرات لم تأتِ من فراغ، بل بفضل تصاعد الوعي الشعبي الأوروبي، وضغط وسائل الإعلام البديلة، ونشاط الحركات الحقوقية والمناهضة للاستعمار والعنصرية.
*ملامح السردية العربية الجديدة
هذه السردية ليست ردًا دفاعيًا، بل خطابٌ هجوميٌ ناضج يقوم على:
• الشرعية الدولية: قرارات مجلس الأمن، تقارير محكمة العدل الدولية، واتفاقيات جنيف كأساس قانوني واضح.
• البعد الإنساني: لا تُقدّم غزة كخبر عاجل، بل كقصة شعب، وأطفال، ومستقبل يُدمر أمام الكاميرات.
• الفصل بين الديانة والمشروع الاستعماري: التفريق بين اليهودية كديانة، والاسرائيلية كأيديولوجيا استعمارية.
• استخدام أدوات العصر: الإعلام الرقمي، التوثيق، المحاكم الدولية، والضغط الأكاديمي.
*التحديات باقية… ولكنها قابلة للتجاوز
لا تزال هناك ماكينات إعلامية ضخمة تعمل على تزوير الواقع، وتمتلك أدوات تأثير كبيرة، خاصة في الغرب. كما يعاني الفلسطينيون والعرب من نقص في التنسيق المؤسسي، وضعف في إنتاج محتوى احترافي متعدد اللغات.
ومن هنا، لا يكفي أن نحارب الرواية الاسرائيلية، بل يجب أن نؤسس روايتنا على أسس صلبة.
*ماذا بعد؟ مقترحات عملية لبناء السردية
1. مكتبة فيديوهات موثقة ومفتوحة المصدر:
• يجب إنشاء "مكتبة السردية الفلسطينية” تتضمن آلاف المقاطع المصورة الموثقة من الميدان، مصنفة حسب التواريخ والمواقع والجهات المنفذة، ومترجمة باللغات العالمية.
2. مراكز دراسات مستقلة ومتخصصة:
• إنشاء مراكز بحث عربية وفلسطينية متخصصة في توثيق الرواية، تنتج تقارير وكتب ومحتوى قابل للتداول الأكاديمي والإعلامي.
3. شبكة تحالف مع نخب العالم الحر:
• العمل على بناء شراكات طويلة الأمد مع أكاديميين وصحفيين ومؤسسات في الغرب المناهض للعنصرية والاستعمار، لتبني السردية من داخل مجتمعاتهم.
4. إطلاق مشروع توثيق الذاكرة الفلسطينية:
• تسجيل روايات الأحياء من النكبة، الأسرى، اللاجئين، والضحايا، بشكل احترافي، لحماية الذاكرة الجمعية من التشويه والاندثار.
5. تدريب كوادر دبلوماسية وإعلامية:
• إعداد جيل جديد من المتحدثين باسم القضية، يتقنون لغات العالم، ويعرفون كيف يخاطبون الرأي العام الغربي بلغة المصالح والحقوق.
*الختام: بين السردية والتحرر
في معركة الرواية، لا يكفي أن نقول الحقيقة، بل علينا أن نقولها بشكل يفهمه العالم، ويتبناه، ويدافع عنه. لقد بدأت الآذان تُنصت، وبدأت بعض الضمائر تستفيق. لكن الانتصار الكامل لا يتحقق بالشعارات، بل بالمشروع المتكامل.
السؤال اليوم ليس فقط كيف نكسب الرأي العام، بل كيف نحول هذا الرأي إلى ضغط سياسي منظم، وسردية مستدامة تُحرج المشروع الاسرائيلي، وتُعيد تعريف القضية الفلسطينية كقضية تحرر إنساني، وعدالة تاريخية.