سهم محمد العبادي : الرأي.. أربعة وخمسون عامًا من الحبر الأردني

في الصحافة، كما في الوطن، هناك عناوين لا تحتاج إلى شروح. أسماء يكفي أن تُذكر، فتنتصب المعاني كما تنتصب جبال عجلون في وجه الريح. وصحيفة الرأي واحدة من هذه العناوين. ليست ورقًا يُطبع، بل ذاكرة وطن، ومرآة عصر، ومحراب قلم. تأسست على يد شهيدٍ لا يشبه إلا الحلم النظيف؛ الشهيد وصفي التل، والاسم وحده يكفي أن يرفعها من بين الصحف إلى مقام المؤسسات الوطنية الكبرى التي حملت همّ الدولة، وصانَتْ هيبتها.
وما دام ذكر وصفي حاضرًا، فاعلم أن الحكاية تبدأ من رجال كانوا إذا كتبوا... بنوا. وإذا نطقوا... أوقدوا النار في هشيم الباطل.
أنا شخصيًّا، لم أعِ الدنيا بعد، إلا و"الرأي" تطبع نبضي على صفحاتها. كان عمي، الأستاذ الصحفي حامد العبادي، يعمل هناك، وكان من أوائل الرجال الذين حملوا مشعل الكلمة في ممرات تلك الصحيفة العتيقة. وفي أيار من عام 1972، بعد أن أبصرتُ النور، نشر عمي تهنئة بقدومي... كانت أولى خطواتي في الدنيا على ورق "الرأي". من يومها وأنا أقرأ فيها، وكأنني أقرأ شهادتي في هذه الحياة.
تابعتُ "الرأي" عبر السنين، وكنتُ أرى فيها زملاء وأصدقاء وأساتذة، وأرى فيها الوطن. كتّابها لم يكونوا فقط أعمدة رأي، بل أعمدة وجدان. رجال من طراز نادر، كتبوا في السياسة كما يُكتب في الشعر، وفي الاقتصاد كما يُصاغ في الحكمة. تعلمنا من مقالاتهم، وتكوّنت أذهاننا على إيقاع عناوينهم. لم تكن مقالاتهم مجرد آراء، بل كانت مدارس فكر، ومرايا نزيهة لضمير الأمة.
في "الرأي" كتب رجال دولة، وتمرّس فيها فرسان قلم، وتخرّج من مكاتبها جيلٌ حمل لواء الصحافة الأردنية بشرف وأمانة. فهي ليست كغيرها، لأنها لم تكن يوماً بلا قضية، ولا بلا موقف. كانت دومًا في صف الدولة، لا تبعيّةً، بل وفاءً للمشروع الوطني الكبير الذي بدأه الكبار، من الملك الحسين، إلى وصفي، إلى كل من حمل هذا البلد في قلبه لا في لسانه فقط.
اليوم، ونحن نطفئ شمعة الـ 54، لا نُطفئ الضوء بل نُشعله. نبارك للزملاء العاملين اليوم، وهم امتداد طبيعي لتلك السلسلة الطاهرة من رجال الكلمة والموقف. نُبارك لكل محرر، وفني، وإداري، سهر الليالي ليخرج العدد في موعده، وبدقة تُشبه دقة الجنود على الحدود.
تبقى "الرأي" كما كانت: رأي الدولة، ورأي الأردنيين، ورأي الحق، ورأي الحقيقة. ما دامت تحمل توقيع وصفي، فستبقى واقفة كما البلقاء، شاهدة على زمان، وصانعة للزمان القادم.
رحم الله من رحل من زملائنا، وأطال الله بعمر من بقي في خندق الكلمة النبيلة. ودامت "الرأي" رايتنا… التي لا تنكّس.