الأخبار

د. عادل عبد اللطيف : الأردن في عصر الذكاء الاصطناعي من منظور التنمية البشرية: رؤية من عالم الجنوب

د. عادل عبد اللطيف : الأردن في عصر الذكاء الاصطناعي من منظور التنمية البشرية: رؤية من عالم الجنوب
أخبارنا :  

منذ أوائل التسعينيات، حققت دول الجنوب تقدمًا كبيرًا في مجالات التنمية البشرية. فقد ارتفع متوسط العمر المتوقع، وازداد عدد الأطفال الملتحقين بالمدارس، وتقلصت الفجوات بين الجنسين، وخرج الملايين من دائرة الفقر. وقد وثق تقرير التنمية البشرية، الذي يصدره سنويًا برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، هذه المسيرة كمصدر موثوق لرصد التقدم والاختلالات.

 

ويأتي تقرير عام 2025 ليشير إلى تحول مفصلي في مسار التنمية، حيث يضع الذكاء الاصطناعي والتنمية البشرية في صلب النقاش العالمي. وهذا التحول لا يعكس فقط تطورًا تقنيًا، بل يستجيب لحاجة ملحّة، خاصة في دول الجنوب، حيث يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي محفزًا قويًا للنمو الشامل – أو عاملاً جديدًا لتوسيع فجوة عدم المساواة.

 

لماذا يشكل الذكاء الاصطناعي فرصة حيوية للجنوب؟

 

الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تقنية متقدمة؛ بل هو أداة تعيد تشكيل الاقتصادات، وآليات تقديم الخدمات العامة، وحتى الطريقة التي نتفاعل بها كمجتمعات. وفي دول الجنوب، يمكن أن يمثل الذكاء الاصطناعي فرصة لتجاوز الحواجز الهيكلية التي أعاقت التنمية لعقود.

 

في القطاع الصحي، يمكن أن يوفر الذكاء الاصطناعي أدوات تشخيص منخفضة التكلفة، ويرصد الأمراض، ويوفر خدمات الطب عن بُعد للمناطق النائية. وفي التعليم، تتيح المنصات الذكية تقديم محتوى تعليمي مخصص يساعد في تقليص الفجوات التعليمية. ويمكن للحكومات أن تحسن كفاءة خدماتها عبر أنظمة رقمية ذكية، مثل المساعدات الافتراضية والتسجيل البيومتري.

 

كما يمكن للتقنيات الذكية تعزيز الإنتاجية الزراعية من خلال "الزراعة الدقيقة"، ودعم جهود التكيف مع التغير المناخي عبر أنظمة إنذار مبكر وتحليل بيانات بيئية متقدمة.

 

التحديات الكبرى: وجه آخر للذكاء الاصطناعي

 

رغم الفرص، إلا أن المخاطر لا تقل حدة. فمعظم تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي يتم في عدد محدود من الدول والشركات الكبرى في الشمال العالمي، مما يؤدي إلى إنتاج خوارزميات وبُنى رقمية قد لا تراعي الخصوصيات الثقافية واللغوية والاجتماعية للجنوب.

 

هناك أربع تحديات رئيسية تواجه دول الجنوب:

 

الفجوة الرقمية والبيانية: تفتقر العديد من الدول إلى البنية التحتية التقنية والبيانات اللازمة لتطوير واستخدام الذكاء الاصطناعي بفعالية

 

ضعف القدرات البحثية المحلية: في غياب الاستثمار في الكفاءات والمؤسسات، تظل الدول معتمدة على الخارج

 

الإقصاء اللغوي والثقافي: معظم الأنظمة الذكية لا تعكس التنوع في دول الجنوب، مما يفاقم التهميش

 

غياب الأطر التنظيمية: لا تزال قوانين حماية البيانات ومبادئ الاستخدام الأخلاقي في بداياتها، مما يفتح المجال لسوء الاستخدام

 

ملامح التقدم في التنمية البشرية في الأردن..

 

حقق الأردن تقدمًا ملحوظًا في مؤشرات التنمية البشرية خلال العقود الماضية، رغم التحديات الاقتصادية والإقليمية المتعددة.

 

فقد ارتفع مؤشر التنمية البشرية للأردن من 0.6 في أوائل التسعينيات إلى ما يزيد عن 0.75 في عام 2023، ليصنّف ضمن فئة الدول ذات التنمية البشرية المرتفعة وفق تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. ومن أبرز مظاهر هذا التقدم:

 

الصحة: ارتفع متوسط العمر المتوقع ليصل إلى نحو 78 عامًا، بدعم من نظام صحي مرن وتحسين في خدمات الرعاية الأولية

 

التعليم: سجلت معدلات الالتحاق بالتعليم الأساسي والثانوي مستويات مرتفعة، إلى جانب نمو في أعداد خريجي الجامعات، خصوصًا في المجالات العلمية والتقنية.

 

المرأة: حققت المرأة الأردنية تقدمًا في مجال التعليم والصحة، ورغم التحديات المستمرة، تشهد المشاركة الاقتصادية والسياسية للنساء خطوات متقدمة ضمن السياسات الوطنية.

 

الاستجابة للأزمات: أظهر الأردن قدرة فريدة على التكيّف مع أزمات اللاجئين والضغوط الإقليمية، مع الحفاظ على استقرار النظام الصحي والتعليمي والخدمات الأساسية.

 

ورغم هذه الإنجازات، لا تزال هناك تحديات تتعلق بنسبة البطالة، وخصوصًا بين الشباب، إلى جانب الحاجة إلى تحسين نوعية التعليم وربط مخرجاته باحتياجات سوق العمل. ويأتي الذكاء الاصطناعي كأداة يمكن توظيفها لمعالجة هذه التحديات وتحقيق قفزات نوعية في التنمية البشرية.

 

الأردن: في قلب الفرصة والتحدي

 

يمثل الأردن حالة فريدة من نوعها، تجمع بين الإمكانات والطموح.

 

فبفضل شبابه المتعلم والمتمكن رقميًا، ورؤية اقتصادية طموحة، يمتلك الأردن المقومات للريادة الإقليمية في الذكاء الاصطناعي.

 

تشير رؤية التحديث الاقتصادي 2023-2033 والاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي 2023-2027 إلى التزام وطني واضح نحو تسخير التكنولوجيا لخدمة التنمية. ويمكن لتطبيقات الذكاء الاصطناعي أن تعزز قطاعات عدة في الأردن.

 

الصحة: تحسين الخدمات في المناطق المستضعفة واللاجئين

 

التعليم: تقليص الفجوة بين المناطق عبر منصات تعليم ذكية

 

المياه: إدارة موارد المياه النادرة بكفاءة أكبر

 

التوظيف: مواءمة مخرجات التعليم مع احتياجات السوق عبر تحليل البيانات

 

لكن التحديات لا تزال قائمة، مثل محدودية الاستثمار في البنية التحتية، واستمرار "هجرة العقول"، والاحتياج إلى أطر تنظيمية قوية للخصوصية والشفافية..

 

بناء رؤية مشتركة لعالم الجنوب

 

لا يواجه الأردن هذه التحديات بمفرده. إذ يمكن لدول الجنوب التعاون فيما بينها (التعاون جنوب-جنوب) لتطوير أدوات رقمية مفتوحة المصدر، وبنى تحتية بيانية مشتركة، ومراكز تدريب إقليمية. كما يجب أن يكون للدول النامية صوت واسهام في صياغة سياسات الذكاء الاصطناعي عالميًا، حتى لا تكون هذه التكنولوجيا امتيازًا محصورًا في أيدي القلة.

 

خاتمة: التكنولوجيا من أجل الكرامة والعدالة

 

يؤكد تقرير التنمية البشرية لعام 2025 أن القيمة الحقيقية للذكاء الاصطناعي تكمن في قدرته على توسيع حريات البشر. وتعزيز كرامتهم. وهذا يتطلب من الدول النامية، و من بينها والأردن، أن تتعامل مع الذكاء الاصطناعي ليس فقط كأداة تقنية، بل كوسيلة لتحقيق تنمية أكثر عدالة وشمولًا.

 

فالذكاء الاصطناعي لا يجب أن يكون بديلاً عن الإنسان، بل وسيلة لتمكين الإنسان. والمستقبل لا يُنتظر، بل يُصنع. والأردن قادر على أن يقدم نموذجًا في كيفية توظيف التكنولوجيا لصالح الناس، وليس العكس.
مدير مكتب الأمم المتحدة للتعاون بين دول الجنوب سابقا

مواضيع قد تهمك