الأخبار

د. مهند عبد الفتاح النسور : التعليم واللغة .. بين اختلاف الفرص وضياع الهوية

د. مهند عبد الفتاح النسور : التعليم واللغة .. بين اختلاف الفرص وضياع الهوية
أخبارنا :  

في الوقت الذي تُعيد فيه دول العالم بناء أنظمتها التعليمية على أسس حديثة، وتشجّع لغاتها الوطنية باعتبارها ركيزة للسيادة الثقافية، يواجه الوطن العربي أزمةً مزدوجة تتجلى في تباين فرص التعليم، وتراجع الاهتمام باللغة العربية، وسط مشهد تعليمي يشهد تصاعدًا للفجوة الطبقية والمعرفية.

لقد بات واضحًا أن هناك تباينًا كبيرًا في الأنظمة التعليمية داخل الوطن العربي. فهناك مدارس تعتمد مناهج تقليدية محدودة الموارد، تقابلها مؤسسات تعليمية خاصة أو دولية تتبنى مناهج أجنبية، وتوفّر بيئة حديثة تُعزز المهارات اللغوية والتفكير النقدي. هذه الفجوة لا تعكس فقط اختلافًا في نوعية التعليم، بل تنتج عنها أيضًا طبقية حقيقية في فرص الحياة.

تتعمق هذه الفجوة حين نُقارن بين المناطق المركزية في المدن الكبرى وبين المناطق الريفية أو المهمشة، حيث تتفاوت البنية التحتية، وكفاءة المعلمين، وتوفر المواد التعليمية الحديثة. فحتى لو تساوى الطلبة في الطموح والذكاء، فإن مناهج التعليم المتقدمة تُتاح لفئة محدودة، بينما يُترك الباقون لمناهج متقادمة تفتقر إلى أدوات العصر.

وفي قلب هذه الأزمة تقف اللغة الأجنبية – وعلى رأسها الإنجليزية – كلاعب أساسي في صناعة التفاوت. لم تعد اللغة الأجنبية مجرد أداة معرفية أو نافذة على العالم، بل أصبحت شرطًا ضمنيًا للقبول في سوق العمل والوظائف القيادية. كثيرًا ما يُفضل المتقدم المتقن للغة الأجنبية على غيره، حتى إن كان الأخير أكثر تفوقًا أو كفاءة في تخصصه.

الأمر الأخطر هو تراجع المكانة الحقيقية للغة العربية في مدارسنا، وجامعاتنا، وأحيانًا حتى في خطابنا اليومي. لقد أصبحت قطاعات واسعة من المجتمع تخجل من استخدام العربية، وتخلطها بلغات أجنبية في مظاهر سطحية، ظنًا أن ذلك يمنحها مكانة أعلى. هذا في الوقت الذي تتمسك فيه أمم عديدة بلغاتها الأم، وترى فيها مصدر فخرٍ وقوة. أما نحن، فقد بدأنا نخسر ما هو أعمق من المهارة: الهوية.

لقد أنتج هذا الواقع طبقتين تعليميتين: الأولى تتقن اللغات الأجنبية وتتمتع بفرص الوصول إلى الوظائف المرموقة ومراكز التأثير، وغالبًا ما تنتمي إلى الفئات الأكثر حظًا. والثانية تُقصى من هذه الفرص لا لنقص في القدرات، بل لضعف في الأدوات التي وفّرها لها النظام التعليمي. وهنا لا نتحدث عن الفئات الدنيا أو النخب، بل عن الفئة الوسطى التي أصبحت تُستنزف وتُقصى تدريجيًا، رغم أنها كانت سابقًا عماد المجتمعات.

إن التعليم في الوطن العربي بحاجة إلى مراجعة شاملة تُعيد الاعتبار للعدالة في توزيع الفرص، وتُصوّب مسار اللغة بوصفها وعاء الفكر والحضارة. ليست اللغة العربية عبئًا، بل كنزًا فقدنا الإحساس بقيمته، وليست اللغة الأجنبية عدوًا، بل أداة يجب أن تُوضع في مكانها الصحيح.

إن الإنصاف في التعليم والاعتزاز باللغة هما حجر الأساس لأي نهضة حقيقية. ومن دون إصلاح هذا الخلل، سنبقى نُنتج أجيالاً تعيش التناقض: تعرف كثيرًا، لكن لا تنتمي لشيء.

مواضيع قد تهمك