د. فواد الخصاونة : مهرجان جرش .. سيّد المهرجانات

"هنا الأردن ومجده مستمر" ليس مجرد شعار يُرفع هذا العام، بل بيان واضح لنية صادقة في جعل الثقافة حدثاً متجذراً، لا في جرش وحدها، بل في روح الاردن بأسره، ففي دورته القادمة( التاسعة والثلاثين) لن يكون المهرجان احتفالاً محصوراً بين أعمدة المسرح الجنوبي، بل سيتحوّل إلى فعل وطني ثقافي شامل، يتوزع على جغرافيا الاردن كما يتوزع ضوء الشمس في البلاد ، من الشمال إلى الجنوب، من البادية إلى الريف، ومن المدينة إلى القرى، وهو وعد بأن الفن والثقافة لن يُختزلا في مكان، بل سيكونان في كل مكان؛ في الشارع، في المدرسة، في البيت، في قلب كل اردني يؤمن بأن الثقافة ليست ترفاً بل حياة، وبهذا المعنى، يثبت مهرجان جرش أنه أكثر من مناسبة فنية؛ بل إنه مشروع استدامة وطنية، يُجدد كل عام مجده بالفعل لا بالقول، ويمنح الأردنيين منصة لصوتهم، لهويتهم، ولمجدهم الذي لا ينتهي.
وفي هذا السياق، قال رئيس اللجنة المنظمة للمهرجان معالي وزير الثقافة مصطفى الرواشدة، إن مهرجان جرش هذا العام يجب أن يكون فضاءً حراً للصوت الوطني، ومنصة يُحتفى فيها بالمثقف والفنان الأردني بفخر، وبمنتجه الإبداعي الغني والمتنوع، مؤكداً أن المهرجان يشكل جسراً حقيقياً للثقافة الوطنية، يعكس تنوعها، ويدعم حضورها محلياً وعربياً، ويُعيد الاعتبار لدور الفن في تشكيل الوعي وتعزيز الهوية.
ولطالما كانت مدينة جرش قلب المهرجان، نبضه الأول، المنصة التي وُلد منها، وتلك الأعمدة الحجرية التي شهدت ألف عرض وعرض منذ تأسيسه، لكنّ الدورة الحالية، كما مثيلاتها في السنوات الأخيرة، تقلب المعادلة لتؤكد أن الأردن كلّه هو المسرح، وأن برنامج المهرجان هذا العام ينطلق إلى المحافظات كافة، لا بوصفه تمدداً عشوائياً، بل كقرار ثقافي مدروس، ينمّ عن إدراك اداري عميق بأن المركزية الثقافية تضعف المجتمع، بينما التنوع والانتشار يُسهمان في خلق مجتمع متذوق.
هذا الامتداد جعل من مهرجان جرش نموذجاً للمهرجان اللامركزي، بل يمكن القول إنه المهرجان العربي الوحيد الذي يتعامل مع الدولة كلها بوصفها جمهوراً، وهي خطوة لها أبعادها الاجتماعية والسياسية؛ فحين تصل الثقافة إلى الجميع، يصبح الجميع معنيين بها، شركاء في صناعتها، لا مجرد متلقين، وهذا ما يحاول جرش ترسيخه عبر هذه النقلة النوعية في برامجه، حيث لم تعد التذكرة وحدها الوسيلة لحضور الفعالية، بل يكفي أن تكون في مدينة من مدن الاردن، لتسمع نغمة، أو تستمتع بقصيدة، أو رقصة، أو تندهش بمشهد مسرحي، أو تتذوق لوحة فنية، أو منحوتة.
وهنا تأكيد متجدد على شعار المهرجان: "هنا الأردن ومجده مستمر"، وفي هذا السياق، يُعد مهرجان جرش اليوم، بلا مبالغة، أهم مهرجان ثقافي عربي من حيث تنوع برامجه وجماهيريته، لا لنجوميته الفنية فحسب، بل لجرأته في الخروج من القوالب، وفي قدرته على بناء جسور حقيقية بين المواطن والفن، إنّ مهرجاناً مثل هذا، حين يقرر ان ألا يكتفي بأن يُسمع بل أن يُصغي، وأن لا يُشاهد فقط بل أن يُعاش، فإنه يتحول من مهرجان إلى مشروع وطني مستدام، يعيش في الذاكرة طوال العام، لا في أسبوعين فقط.
وبالعودة إلى موقعه عربياً، فإن مهرجان جرش يُصنّف ضمن أهم المهرجانات العربية، إن لم يكن سيّدها، من حيث الاستمرارية والانتظام، حيث واظب على تنظيم فعالياته السنوية رغم التحديات الإقليمية والعالمية، متفوقاً على العديد من المهرجانات التي تتسم بالطابع الموسمي، أما من حيث التعدد الفني، فلا ينافسه مهرجان عربي في تنوع ما يقدمه من غناء، مسرح، موسيقى، شعر، حرف، فلكلور، ندوات فكرية، وفنون تشكيلية في بيئة أثرية تكتمل فيها روح الفن بروح التاريخ، مهرجان جرش هو سيّد المهرجانات العربية، ليس فقط بتاريخ تنظيمه أو بحجمه، بل برسالته الثقافية التي ما تزال تُكتب على حجر، وتُغنّى على مدرج، وتُرددها الجماهير كل عام: "هنا الأردن، ومجده مستمر".
"هنا الأردن ومجده مستمر" هو تأكيد على أن المهرجان مشروع وطني مستدام، نجح في التغلغل في نسيج المجتمع الأردني، صانعاً أثراً يتجاوز العروض إلى تشكيل الوعي وبناء الجسور بين الناس والثقافة، وقدرته على الاستمرار لم تكن محض صدفة، بل نتيجة لرؤية واضحة لإدارته التي تُدرك أن الاستثمار في الفن والمعرفة هو استثمار في مستقبل الوطن.
في كل عام، ننتظر دورته، ويتجدد جرش لا ليحتفل بالماضي، بل ليؤكد أن المجد الأردني ينبض في الحاضر، ويصنع مستقبله بكل نغمة، وكل قصيدة، وكل لوحة، وكل خطوة تُقام على خشبة المسرح أو في قلب حي صغير في الأردن، حيث الثقافة تتسع للجميع وهي حقٌ للجميع أيضا.