ديما الفاعوري : إصلاحات حكومية تؤسس لمرحلة جديدة من التحديث الإداري والتحفيز الاقتصادي في الأردن

في سياقٍ يتسم بالتحوّلات العميقة التي يشهدها القطاع العام الأردني، تبدو قرارات مجلس الوزراء الأخيرة أكثر من مجرد تحديثٍ إداري أو معالجة تقنية لمشكلات ضريبية عالقة. إنها إعلانات واضحة عن إرادة سياسية تمضي بثقة نحو ترسيخ نهج إصلاحي متكامل، يستند إلى تحديث البُنى التنظيمية للمؤسسات العامة من جهة، وإلى تعزيز الثقة بين الدولة وقطاع الأعمال من جهة أخرى، بما يصبّ في نهاية المطاف في خدمة الصالح العام وتوسيع قاعدة النمو المستدام.
لقد وافق مجلس الوزراء على مشروعَي نظامين جوهريين، الأول يخصّ مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، والثاني يتعلق بمؤسسة تنمية أموال الأيتام. القراران تمهيدان مهمّان لإرسالهما إلى ديوان التشريع والرأي لإقرارهما حسب الأصول، وهما يشكّلان حجر الأساس لهيكل إداري جديد يعكس روح المرحلة، ويعبّر عن إدراك عميق لحاجة المؤسسات العامة إلى أن تكون أكثر كفاءة ومرونة وقدرة على التجاوب مع متطلبات الدولة الحديثة.
وفي مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، التي تمثل الواجهة الإعلامية الرسمية للدولة، يُعد دمج مديريات الموارد البشرية والتخطيط وتطوير الأداء في مديرية واحدة خطوة استراتيجية، تتجاوز مجرد تقليص الهيكل البيروقراطي. فهي تؤسس لإطار إداري موحد يعمل بانسجام، ويُعنى برفع كفاءة الأداء الداخلي، والتخطيط طويل الأمد، وإدارة الموارد البشرية على نحو يُمكّن المؤسسة من مواكبة التطورات التكنولوجية في المشهد الإعلامي العالمي. لقد عانت هذه المؤسسة عبر سنوات من ضعف التنسيق وازدواجية القرار، وهو ما انعكس على جودة المنتج الإعلامي الذي يُفترض به أن يُجسّد نبض الدولة والمجتمع. أما الآن، فثمة فرصة حقيقية لإعادة التموضع، وإنتاج خطاب إعلامي وطني متوازن، مدعوم بكفاءة إدارية متينة.
على الضفة الأخرى، لا تقلّ الخطوة المرتبطة بمؤسسة تنمية أموال الأيتام أهمية. فهذه المؤسسة تُعنى بإدارة أموال الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع – الأيتام – وبالتالي فإن أي خلل في أدائها الإداري أو الاستثماري ينعكس بشكل مباشر على حياة ومستقبل الآلاف. ومن هنا، فإن دمج مديريات الموارد البشرية والتخطيط وتطوير الأداء في كيان إداري واحد لا يُعد ترفاً إدارياً، بل ضرورة حتمية لضمان حسن إدارة الأموال، ورفع جودة الحوكمة المؤسسية، وتطوير آليات الرقابة الداخلية، وتحسين القدرة على اتخاذ القرار الاستثماري في بيئة متغيرة وسريعة التحديات. ما تقوم به الحكومة هنا هو تعزيز للشفافية والكفاءة في مؤسسة حساسة، يُفترض بها أن تكون نموذجاً في الاستدامة والمسؤولية.
لكن هذه التحركات لم تقتصر على الجانب الإداري. فبموازاة هذا الإصلاح المؤسسي، وافق مجلس الوزراء على توصيات لجنة التسوية والمصالحة لتسوية 419 قضية ضريبية عالقة بين مكلّفين وشركات من جهة، ودائرة ضريبة الدخل والمبيعات من جهة أخرى. القرار يحمل دلالات بالغة الأهمية، فهو يُعبّر عن فلسفة اقتصادية تتفهم الواقع المالي للمكلّفين، وتسعى إلى فتح صفحة جديدة معهم، تقوم على التفاهم والتسوية بدلاً من النزاع والتعقيد.
لقد جاء هذا القرار استكمالاً لنهج التخفيف عن كاهل القطاعات الاقتصادية، وتوفير بيئة أكثر انفتاحاً للمستثمرين، بما يتيح لهم تصويب أوضاعهم الضريبية بطريقة مرنة وعادلة، تضمن حقوق الدولة دون أن تخنق أنفاس النشاط الاقتصادي، فالمستثمر الذي يعيش في ظل نظام ضريبي مرن وعادل، ويشعر أن الدولة تتعامل معه كشريك لا كخصم، هو مستثمر سيبقى، ويتوسع، ويوظّف، ويسهم في النمو. والحكومة، بهذا النهج، لا تحل أزمة لحظية فقط، بل تؤسس لعلاقة جديدة مع القطاع الخاص، قوامها الثقة والوضوح والمصلحة المتبادلة.
ما يجمع بين القرارات الإدارية والتنظيمية من جهة، والتسويات الضريبية من جهة أخرى، هو إدراك الحكومة بأن الإصلاح لا يمكن أن يكون انتقائياً أو مجزّأ. فالمؤسسات لا تعمل في فراغ، والإدارة الرشيقة تحتاج إلى مناخ اقتصادي ديناميكي، كما أن تحفيز الاقتصاد لا يكتمل دون مؤسسات عامة تملك من المرونة والكفاءة ما يجعلها قادرة على دعم السياسات الوطنية لا عرقلتها.
والواضح أن هذه الإجراءات لا تأتي بمعزل عن استراتيجية أوسع تتبنّاها الحكومة منذ إطلاقها برامج تحديث القطاع العام، وهي الاستراتيجية التي ترتكز على إعادة تعريف العلاقة بين الدولة ومواطنيها، بما يُعيد الثقة بين الطرفين، ويعزّز من قدرة المؤسسات على تقديم خدمات فعّالة ومتطورة، تعكس التزام الدولة بتحقيق التنمية والعدالة.
في المحصلة، ما نشهده اليوم ليس قرارين إداريين أو إجراءً ضريبياً فحسب، بل مشهد متكامل من الإصلاح المتدرج، المحسوب، والواعي. فبين إعادة هيكلة مؤسسة إعلامية وطنية، وتحديث آليات عمل مؤسسة اجتماعية حساسة، وبين تسوية مئات القضايا الضريبية بما يخدم بيئة الأعمال، تتضح ملامح المرحلة القادمة: دولة مرنة، مؤسسات فعّالة، واقتصاد مُحفَّز.
ما تحتاجه هذه المرحلة هو الاستمرار، والمتابعة الدقيقة، والربط بين الإصلاح الإداري والتشريعي من جهة، والنتائج الفعلية على أرض الواقع من جهة أخرى. فكل خطوة إصلاحية لا تتبعها رقابة وتقييم حقيقي تبقى عرضة للجمود، وكل تسوية ضريبية لا يُرافقها تطوير في أدوات الجباية تبقى حلًا مؤقتاً.