حسام الحوراني : بناء تحالفات عربية في البحث والتطوير في تقنيات المستقبل

في لحظةٍ مفصلية من تاريخ الأمة العربية، وبينما تتسارع خطى العالم نحو مستقبل تُعيد فيه التكنولوجيا رسم الحدود والمعايير، تقف الدول العربية أمام فرصة نادرة لبناء واقع مختلف، يكون فيه البحث والتطوير (R&D) هو المحرك الأهم للنمو، والتحالفات الإقليمية هي جسر العبور إلى التميز والريادة. في زمن الذكاء الاصطناعي، وحواسيب الكم، والروبوتات، وتكنولوجيا النانو، لم يعد امتلاك الموارد الطبيعية وحده هو المعيار للقوة، بل أصبح امتلاك المعرفة القابلة للتحويل إلى ابتكار هو العملة الحقيقية لمستقبل الشعوب.
العالم من حولنا يتجه نحو بناء تكتلات معرفية واقتصادية ضخمة، تدرك أن الابتكار لا يمكن أن يولد في بيئة مجزّأة، وأن الاستثمار في العقول والخبرات المشتركة يفوق في أثره بناء المصانع وحدها. وهنا يكمن التحدي الأكبر والفرصة الأعظم للعرب: أن ننتقل من عقلية التنافس الضيق إلى عقلية التعاون الواسع، ومن المشاريع المنفردة إلى المبادرات الموحدة، ومن محاولات فردية لاختراق المستقبل إلى تحالفات علمية شاملة تبني المستقبل.
تخيل لو اجتمعت القدرات العلمية والبحثية المتفرقة بين العواصم العربية في كيان واحد، يتشارك في تمويل الأبحاث، وبناء المختبرات المتقدمة، وتطوير التطبيقات المستقبلية في الذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، والطاقة المتجددة، والتكنولوجيا الحيوية، والاتصالات الكمومية. تخيل إن تم توجيه جزء بسيط من ميزانيات الدفاع أو الإنفاق التقليدي إلى بناء مراكز أبحاث إقليمية مشتركة، تضم علماء عرب من كل البلاد، وتعمل على حل مشكلات مشتركة، وتضع العرب في قلب الابتكار العالمي بدل أن يكونوا على هامشه.
ليست الفكرة خياليه. فالنماذج موجودة. الاتحاد الأوروبي مثلاً، تجاوز الخلافات السياسية، وأسّس مراكز بحثية تموّلها عدة دول، وتُدار برؤية علمية مستقلة، وتُوزَّع نتائج أبحاثها على الشركاء. لماذا لا نحذو حذوهم؟ لماذا لا يكون لدينا «تحالف عربي للابتكار المستقبلي»، تنضوي تحته مؤسسات وجامعات وصناديق تمويل من الخليج إلى المغرب، يتشاركون في رسم أولويات البحث، وتوجيه الطاقات الشبابية، وتحويل المعرفة إلى منتجات وأسواق وفرص عمل؟
الوطن العربي يمتلك كنوزًا بشرية مهملة. آلاف العلماء العرب الذين يبرعون في جامعات ومراكز بحث غربية، تركوا أوطانهم بحثًا عن بيئة تدعم أفكارهم، وتموّل طموحاتهم، وتحترم عقولهم. تحالف علمي عربي حقيقي قادر على استعادة هؤلاء العقول، ليس بالحنين العاطفي، بل بخلق بيئة علمية جاذبة، شفافة، تحكمها الكفاءة لا المحسوبية، وتشجع التبادل الفكري لا التنافس الجاف.
التحالفات العلمية ليست فقط مسألة تمويل أو هندسة إدارية، بل هي ثقافة جديدة علينا تبنيها. ثقافة تؤمن أن نجاح بلد عربي في إنتاج تكنولوجيا جديدة هو انتصار لكل العرب، وأن التعاون في بناء روبوت أو تطوير دواء أو تصنيع حاسوب كمومي هو مشروع نهضة لا مشروع تجاري فقط. وأن العلم لا يعرف الجغرافيا، ولا يعترف باللهجات المختلفة، بل يبحث عن أرض خصبة، ومناخ داعم، وشركاء حقيقيين.
بناء تحالفات عربية في تقنيات المستقبل سيجعلنا ننتقل من استيراد التكنولوجيا إلى صناعتها، ومن التبعية الرقمية إلى الاستقلال المعرفي، ومن الحديث عن «التنمية» إلى قيادة «الثورة الصناعية الخامسة». سنصبح شركاء حقيقيين في صياغة العالم الجديد، لا مجرد مستخدمين متأخرين لأدواته.
في قلب كل ذلك، يبقى الإنسان العربي هو المحور. حين يرى أن أمته تؤمن به، تدعمه، وتفتح له أبواب الحلم والعلم معًا، فإنه سيبدع، ويبتكر، ويقود. فالتحالفات العلمية ليست فقط بين حكومات، بل بين العقول والقلوب. وما نحتاجه اليوم ليس فقط مشاريع علمية مشتركة، بل رؤية عربية موحدة تقول: «آن لنا أن نصنع مستقبلنا بأيدينا».
الوقت ليس في صالح المترددين، ولا التاريخ يرحم من تخلّف عن قطار التغيير. وإذا لم تتحد العقول العربية اليوم من أجل بناء الغد، فستجد نفسها غدًا تحت رحمة من بنوه دونها. إنها لحظة وعي، لحظة قرار أن نكون صُنّاعًا للمستقبل، لا مجرد متفرجين عليه.