صالح سليم الحموري يكتب : استقلالُ وطنٍ… وبوصلةُ مستقبل

في ذكرى استقلال المملكة الأردنية الهاشمية، لا نحتفل بالماضي فحسب، بل نجدد العهد مع المستقبل.
فكما خاض الآباء معارك التحرر والسيادة، علينا اليوم أن نخوض معركة من نوع آخر — معركة التقدّم والجاهزية والتحوّل.
الاستقلال لم يكن لحظةً عابرة، بل مشروعًا مستمرًا لبناء دولة حديثة، متجددة، وشابة في روحها كما أرادها الحسين، ويقودها اليوم جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين بثقة وعزيمة نحو المستقبل.
لم يعد المستقبل مجرد حلم ننتظره، أو مرحلة زمنية غامضة نترقّب قدومها. لقد أصبح واقعًا نعيشه، لحظةً بلحظة.
ما كان بالأمس خيالًا تقنيًا أو تطلّعًا نظريًا، أصبح اليوم حقيقة ملموسة تتغلغل في تفاصيل حياتنا اليومية؛ من الهواتف الذكية التي باتت امتدادًا لأذهاننا، إلى المساعدات الرقمية التي تدير جداولنا، والسيارات ذاتية القيادة — جميعها مشاهد من حاضرٍ نعيشه ونتفاعل معه.
في تقرير صادر عن شركة ماكنزي، يُتوقّع أن يُحدث الذكاء الاصطناعي التوليدي تحولًا جذريًا في أكثر من 70% من الوظائف حول العالم بحلول عام 2030، خصوصًا في مجالات مثل البرمجة، التسويق، والتعليم.
أما منتدى الاقتصاد العالمي، فيحذر من أن نحو 44% من المهارات المستخدمة حاليًا، ستفقد صلاحيتها بعد عام 2027 — ما يمنحنا فترة قصيرة لإعادة ابتكار ذواتنا.
ويتنبأ المفكر والمخترع راي كورزويل بأن الحواسيب ستصل إلى مستوى ذكاء الإنسان خلال أقل من عقد، إيذانًا بدخول عصر "الذكاء الفائق"، حيث يُصبح الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة، بل شريكًا في التفكير وصنع القرار.
الذكاء الاصطناعي يعيد رسم المشهد
هذا التحول لا يقتصر على سوق العمل فحسب.
في قطاع الرعاية الصحية، سيتمكن الذكاء الاصطناعي من تشخيص الأمراض المزمنة بدقة تتجاوز الأطباء، من خلال تحليل البيانات الحيوية اليومية للمستخدمين.
أما في التعليم، فسيتحول إلى تجربة شخصية فريدة لكل طالب، تُصمَّم وفقًا لنمط تعلّمه وسرعة فهمه، مما يعزز العدالة التعليمية ويُقلّص الفجوات بين القدرات.
حتى أنماط حياتنا اليومية ستتغير؛ من عمليات الشراء التلقائية للحاجات المنزلية، إلى مساعدين افتراضيين يُنظّمون تفاصيل يومنا، ويقترحون علينا ما نأكله، وكيف نمارس الرياضة، بناءً على بياناتنا الشخصية.
لم يعد المستقبل مؤجَّلاً
كل هذه التغيرات لم تعد ضربًا من الخيال العلمي، بل تحولات تحدث بالفعل.
لم تعد عبارة "المستقبل هو الآن" مجرد مجاز تعبيري، بل أصبحت حقيقة يجب أن نتمثلها في قراراتنا، في سياساتنا، في تعليمنا، وفي طريقة تعاملنا مع الفرص والتحديات.
كل قرار نتخذه اليوم، مهما بدا بسيطًا، يُرسم به ملامح الغد.
كل مهارة نُطوّرها، كل فكرة نُجربها، كل تقنية نتبناها — جميعها تشكل نسيج المستقبل.
وفي عالم يُقاس فيه التقدّم بالثواني، من يتأخر اليوم، قد لا يجد لنفسه مكانًا غدًا.
مسؤوليتنا اليوم... مضاعفة
الوعي بهذه الحقائق يحمّلنا مسؤوليتين متكاملتين:
مسؤولية فردية: أن نكون دائمًا على استعداد للتطور، متيقظين للتحولات، منفتحين على التعلم.
ومسؤولية جماعية: أن نكون الجسر الذي تعبر عليه أجيالنا القادمة نحو عالم لم يُخلق بعد، بل يُبنى الآن — بأفكارنا، وقراراتنا، وشجاعتنا.
لم يعد الاستعداد للمستقبل ترفًا فكريًا أو خيارًا مؤجَّلاً.
إنه شرطٌ للاستمرار.
من لا يفهم آليات التغيير، قد يصبح ضحية لها.
ومن لا يُتقن أدوات الذكاء الاصطناعي، سيُستَبدَل بها لا محالة.
فليست الخطورة في أن تصبح الآلات أذكى من الإنسان، بل أن يبقى الإنسان ساكنًا في زمن يتطلب حركة دائمة، وفعلًا مستمرًا.
في يوم استقلالنا...
لا يكفينا أن نفتخر بما تحقق، بل علينا أن نفكر بما هو قادم.
فالاستقلال الحقيقي لا يُقاس فقط بما نملكه من أراضٍ وسيادة، بل بما نملكه من جرأة على التجديد، وإرادة للبناء، وجاهزية للمنافسة في عالم سريع التحول.
لا تنتظر أن يُخبرك الزمن بما سيحدث…
كن أنت من يُحدثه.
طوّر مهاراتك، أعد اكتشاف قدراتك، وشارك في صناعة الغد بدل أن تكتفي بمراقبته.
لأن أكثر ما نحتاجه اليوم، ليس فقط أن نكون مستعدين للمستقبل، بل أن نكون جزءًا حيًّا من صناعته.
تذكّر دومًا:
ما تبنيه اليوم... ستعيشه غدًا.
وأن المستقبل... ليس في المستقبل، بل هو الآن.
* مستشار التدريب والتطوير – كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية