الأخبار

صالح سليم الحموري يكتب : بيروقراطية حكومات المستقبل

صالح سليم الحموري يكتب : بيروقراطية حكومات المستقبل
أخبارنا :  

في عالم يتسارع فيه التغيير وتتزايد فيه التحديات، لم تعد البيروقراطية التقليدية قادرة على تلبية تطلعات الشعوب أو الاستجابة الفعالة للأزمات والمواقف غير المتوقعة. ومع ذلك، لا تزال الإدارة العامة مطالبة بتوفير الاستقرار – لا سيما في أوقات عدم اليقين – حيث ينظر إليها المواطنون على أنها صمام أمان، لا مصدرًا للاضطراب.

وهنا يكمن التحدي الجوهري: كيف يمكن لحكومات المستقبل أن تحافظ على الاستقرار المؤسسي، وفي الوقت نفسه تنخرط بفاعلية في عمليات التحول والتجديد ذات المعنى – مع الحفاظ على رشاقتها المؤسسية؟

لطالما ارتبطت البيروقراطية بالأنظمة الجامدة، والإجراءات الثابتة، والتسلسل الهرمي الصارم. وقد ساهم هذا النموذج عبر التاريخ في تنظيم المجتمعات، وضمان العدالة الإجرائية، والحد من القرارات التعسفية لصالح المصلحة العامة. ومع ذلك، وفي ظل التسارع التكنولوجي، وتزايد الوعي المدني، وارتفاع سقف التوقعات من الخدمات العامة، باتت البيروقراطية الكلاسيكية تُنظر إليها اليوم كعبء أكثر منها أداة فعالة للتنظيم.

لذلك، لم تعد "الرشاقة المؤسسية" ترفًا تنظيميًا، بل أصبحت ضرورة وجودية لا غنى عنها. فالحكومات الحديثة مطالبة بالحفاظ على النظام والنزاهة، ولكن في ذات الوقت بتبنّي الابتكار، واستشراف المستقبل، وتصفير البيروقراطية، حتى وهي تعيد تشكيل بنيتها من الداخل. إن المطلوب ليس هدم الأنظمة القائمة، بل إحداث تحوّل هادف ومتزن، دون الإضرار بجذور الاستقرار المؤسسي. فهذه القدرة المزدوجة – على الحفاظ على التماسك، وفي الوقت ذاته دفع عجلة التغيير – تُعدّ حجر الزاوية في بناء بيروقراطية حكومات المستقبل.

في ظل الهياكل الصلبة، قد يشعر الموظف العام أحيانًا أنه مجرد ترس في آلة. إلا أن تحديات الغد تتطلب العودة إلى الإنسان – إلى ما يمنح المعنى، والدافع، والاستمرارية. كيف نحافظ على إنسانيتنا عندما تباعدنا الأنظمة؟ وكيف نُعيد إحياء الشعور بالمهمة والغاية في بيئات عمل تطغى عليها الرتابة والتكرار؟

السنوات المقبلة ستتطلب أكثر من مجرد الصمود والمهنية. على موظفي القطاع العام أن يطوروا مهارات جديدة: التفكير النقدي، والقدرة الواعية على نسيان الممارسات القديمة التي لم تعد مجدية، والتعلم السريع، والانفتاح على أدوات الذكاء الاصطناعي، والقدرة على التفاعل مع الواقع بدلًا من مجرد التكيّف معه. يصبح التجديد والتميز المؤسسي استراتيجية بحد ذاتها، لا مجرد ترف تنظيمي. وتصبح "النزاهة الشخصية" الأساس الذي يُعاد من خلاله بناء "الثقة" في الحكومات وتُشكّل عليه مؤسسات أكثر إنسانية ومرونة.

وفي سياق الشراكات المبتكرة بين القطاع العام والخبرات الفكرية، يمكن أن تظهر نماذج تشغيل جديدة تحقق توازنًا ذكيًا بين الشفافية وسرعة الاستجابة، وبين التكنولوجيا والإنسان، وبين مركزية القرار ولامركزية التنفيذ. تُشكّل هذه الشراكات حجر الزاوية في بناء "بيروقراطية ذكية" قادرة على تجاوز العقبات وإعادة تعريف الحوكمة وفق معايير المستقبل.

ولتحقيق ذلك، ينبغي على المؤسسات العامة أن تبني "جسورًا متينة" مع القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني، من أجل تعزيز "ثقافة التشاركية" في تصميم الحلول، وتقديم خدمات تفوق توقعات المستخدمين، وبالتالي إنشاء نموذج تكاملي تتكامل فيه الأدوار وتتضاعف فيه النتائج.

بيروقراطية حكومات المستقبل لن تكون مجرد نسخة محدّثة من الماضي، بل ستكون نموذجًا جديدًا يُعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، وبين الموظف والمؤسسة، وبين الفكرة والتنفيذ. التحدي لا يكمن في إلغاء البيروقراطية، بل في "إعادة ابتكارها بمنطق جديد" بيروقراطية تُحترم لا تُخشى، تُيسّر لا تُعطّل، تبادر لا تكتفي بردّ الفعل.

* مستشار التدريب والتطوير / كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية

مواضيع قد تهمك