حسام الحوراني : هندسة النقل والذكاء الاصطناعي وحواسيب الكم

في زحام الطرقات، وفي هدوء المدن التي تتنفس بالحركة، هناك علمٌ دقيق يقف وراء كل إشارة ضوئية، وكل جسر، وكل خط سير محسوب. إنه علم هندسة النقل، الذي لم يعد مجرد تخطيط للبنية التحتية أو تنظيم للمركبات، بل تحوّل إلى مسرح تتقاطع فيه أكثر التخصصات تقدمًا، وأعقد التقنيات حداثة. اليوم، تلتقي هندسة النقل مع الذكاء الاصطناعي، وتتشابك مع حواسيب الكم، لتُعيد تشكيل الطريقة التي نفهم بها الحركة، ونتفاعل بها مع العالم من حولنا.
الهندسة التي كانت تعتمد على الخرائط الورقية والنماذج الثابتة، أصبحت الآن تتغذى على مليارات من نقاط البيانات الحية، وتحللها في الزمن الحقيقي بفضل الذكاء الاصطناعي. تُصبح كل حركة سيارة، وكل ضغطة مكابح، وكل تغيير في الإشارة الضوئية، جزءًا من نظام ذكي يتعلّم باستمرار، ويُعيد تشكيل نفسه لحظة بلحظة، لتقليل الازدحام، وتقصير أوقات الرحلات، وتقليل الحوادث، وتحقيق انسيابية غير مسبوقة.
المهندس لم يعد يعمل منفردًا، بل أصبح يعمل جنبًا إلى جنب مع الخوارزميات، يتشاور مع النماذج التنبؤية، ويتخذ القرار اعتمادًا على أنظمة تعلّم عميق تتوقع كيف ستتحرك المدينة خلال دقائق وساعات، بل وأيام. الذكاء الاصطناعي لا يراقب فقط، بل يتفاعل، يتعلم من التكرار، ويطوّر الأداء، ويرتّب الأولويات، ويخلق نموذجًا ديناميكيًا يُحاكي حركة الحياة بدقة مذهلة.
لكن هذا ليس كل شيء. على الأفق، هناك قوة جديدة بدأت تظهر، ستغيّر كل ما نعرفه عن المحاكاة، والتخطيط، والمعالجة: إنها حواسيب الكم. تلك الآلات الخارقة، القادرة على إجراء عمليات معقدة في أجزاء من الثانية، ستجعل من الممكن تحليل تريليونات من السيناريوهات المحتملة في وقت يكاد يقترب من اللحظة. تخيل أن تستطيع محاكاة آلاف السيناريوهات لحركة النقل في مدينة كاملة، خلال لحظه فقط، وبدرجة دقة تسمح بصنع قرارات فورية تستبق الزحام والحوادث وحتى الأعطال.
حواسيب الكم ستُمكّن مهندسي النقل من بناء نماذج تنبؤية تتجاوز القدرات التقليدية. يمكنهم توقع أثر بناء طريق جديد ليس فقط على حركة المرور، بل على جودة الهواء، وسلوك الناس، والأنشطة الاقتصادية في الأحياء المجاورة. يمكنهم استخدام نماذج حسابية لا يستطيع الحاسوب العادي التعامل معها، ليُعيدوا تصميم المدن من الداخل إلى الخارج، بخطة تجمع بين الرؤية الشاملة والتفاصيل الدقيقة.
وفي خضم هذا التقدّم، تتغيّر فلسفة هندسة النقل نفسها. لم تعد تدور فقط حول تحريك المركبات، بل حول خدمة الإنسان. كل تقنية تُوظف، من الذكاء الاصطناعي إلى الحوسبة الكمومية، تهدف إلى جعل التنقل أكثر عدالة، أكثر أمانًا، أكثر كفاءة. تتقاطع هنا الهندسة مع الأخلاق، والتقنية مع السياسات، والمستقبل مع الحاضر.
إنها فرصة نادرة للعالم العربي. بُنية تحتية متنامية، مدن جديدة تُبنى من الصفر، وسكان شبّان متعطشون للتقدّم. لا يوجد ما يمنعنا من أن نكون في طليعة من يُدمجون الذكاء الاصطناعي وحواسيب الكم في هندسة النقل. يمكن أن نكون نموذجًا عالميًا للمدن الذكية التي تُبنى من خلال المعادلات، وتُدار بالعقول، وتُخدم بالرحمة.
اخيرا، ليست الطرق هي التي تصنع الحضارات، بل الطريقة التي نُفكر بها حين نبنيها. وحين نجعل من الذكاء الاصطناعي أداة لاختصار المسافات، ومن حواسيب الكم عقلًا للتنبؤ بالمستقبل، ومن الإنسان محور كل قرار حينها فقط، تصبح هندسة النقل رسالة أعمق من مجرد تنظيم الحركة، بل مشروعًا حضاريًا يعبر بنا إلى الغد بثقة، وكرامة، وابتكار.