الأخبار

حسام الحوراني : الذكاء الاصطناعي وعلم الأوبئة: عندما تُحارب الفيروسات بالخوارزميات

حسام الحوراني : الذكاء الاصطناعي وعلم الأوبئة: عندما تُحارب الفيروسات بالخوارزميات
أخبارنا :  

في عالم يتغير بوتيرة غير مسبوقة، ويزداد ترابطه يوماً بعد يوم، أصبحت الأوبئة تهديدًا عالميًا لا يعرف حدودًا. ما أن يظهر فيروس في أقصى الشرق حتى يصل إلى الغرب خلال ساعات. وفي ظل هذا الواقع، لم يعد الاعتماد على أدوات تقليدية في علم الأوبئة كافيًا، بل بات لزامًا على البشرية تسخير أقوى أدوات العصر: الذكاء الاصطناعي. نعم، تلك الخوارزميات التي كانت يومًا مكرّسة لتحسين محركات البحث أو توصية الأفلام، أصبحت الآن في الخطوط الأمامية لمواجهة الأوبئة، والتنبؤ بها، والحد من آثارها المدمرة.

علم الأوبئة، الذي يدرس أنماط انتشار الأمراض وتوزعها وتأثيراتها، شهد تحولًا جذريًا منذ دخول الذكاء الاصطناعي إلى ساحته. فبدلًا من التحليل اليدوي للبيانات والتقارير، بات العلماء اليوم يستخدمون نماذج تنبؤية متقدمة يمكنها تحليل ملايين البيانات في وقت قياسي، واستنتاج روابط خفية لا يمكن للعقل البشري اكتشافها بسهولة.

أبرز ما يقدّمه الذكاء الاصطناعي لعلم الأوبئة هو القدرة على التنبؤ بالانتشار قبل أن يحدث. باستخدام تقنيات مثل تعلم الآلة (Machine Learning) وتحليل البيانات الضخمة (Big Data Analytics)، يمكن للخوارزميات تتبع مؤشرات مبكرة على تفشي مرض ما، سواء عبر تحليل نتائج البحث على الإنترنت، أو منشورات وسائل التواصل الاجتماعي، أو حتى تحليلات المشتريات في الصيدليات. خوارزميات مثل تلك التي طورتها شركة «بلو دوت» الكندية تمكّنت من رصد تفشي فيروس كورونا قبل منظمة الصحة العالمية، عبر تحليل حركة المسافرين والتقارير الصحية باللغة الصينية.

ولم تتوقف فوائد الذكاء الاصطناعي عند التنبؤ، بل امتدت إلى تحسين أنظمة المراقبة الوبائية. ففي الوقت الذي كانت فيه الدول تكافح لتجميع البيانات يدوياً، كانت الخوارزميات تقوم بتحليل البيانات الصحية من المستشفيات، والمختبرات، وحتى من الأجهزة القابلة للارتداء، لاكتشاف نقاط التفشي ومراكز العدوى في الوقت الحقيقي. وقد ساعد هذا التحليل السريع في رسم خرائط دقيقة لتوزع المرض، وتوجيه الموارد الصحية بشكل فعال، واتخاذ قرارات سريعة بشأن الإغلاق أو الاستجابة الطبية.

كما أثبت الذكاء الاصطناعي دوره في تسريع تطوير اللقاحات. من خلال تقنيات التعلم العميق، بات من الممكن تحليل تسلسل الجينوم الفيروسي، والتعرف على البروتينات المناسبة لتصميم اللقاح، واختصار سنوات من العمل إلى شهور أو حتى أسابيع. نموذج «AlphaFold» الشهير من DeepMind، على سبيل المثال، فتح آفاقًا جديدة في فهم البروتينات الفيروسية، وهو ما أسهم بشكل غير مباشر في تسريع أبحاث علاج كوفيد-19.

وعلى مستوى المجتمع، يتيح الذكاء الاصطناعي تصميم نماذج محاكاة تعكس كيفية انتشار المرض في المدن، وتأثير السلوك البشري على سلاسل العدوى. هذه النماذج تساعد صناع القرار على اختبار السيناريوهات المختلفة – مثل إغلاق المدارس، أو فرض الكمامات، أو توزيع اللقاحات – قبل تنفيذها فعليًا، مما يوفر الوقت والتكلفة، ويقلل من الأخطاء القاتلة.

لكن هذه القفزة التكنولوجية لا تخلو من التحديات. أولها وأخطرها هو الخصوصية. فلكي تعمل هذه الأنظمة بكفاءة، فإنها تحتاج إلى بيانات صحية دقيقة ومستمرة، وهو ما يفتح الباب لمخاوف تتعلق باستخدام البيانات الشخصية، ومخاطر المراقبة الزائدة. كما أن بعض الخوارزميات تعاني من التحيّز إذا لم تُدرّب على بيانات متنوعة تمثّل كافة الفئات السكانية، مما قد يؤدي إلى توصيات غير دقيقة أو غير عادلة في توزيع الموارد أو اللقاحات.

بالإضافة إلى ذلك، هناك حاجة ملحّة إلى تعزيز التكامل بين الذكاء الاصطناعي والقطاع الصحي التقليدي. لا يزال كثير من العاملين في الصحة العامة ينظرون إلى هذه الأدوات كمنتج تقني بعيد عن الواقع العملي. وهنا، تأتي أهمية بناء جسور تعاون حقيقية بين المبرمجين وعلماء الأوبئة، وصناع السياسات، لضمان أن تكون النماذج الذكية قابلة للتطبيق، وتخدم هدفًا إنسانيًا واضحًا.

في منطقتنا العربية، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون نقطة تحول في الاستعداد الصحي الوطني. فمع محدودية الموارد أحيانًا، وغياب أنظمة مراقبة متطورة، توفر هذه التقنيات وسيلة فعالة لرصد الأوبئة قبل تفاقمها، وتوجيه الاستجابة الطبية بكفاءة. يمكن للحكومات الاستثمار في بناء مراكز تحليل بيانات صحية مدعومة بالذكاء الاصطناعي، وتدريب الكوادر الطبية على استخدام هذه الأدوات ضمن برامج الوقاية والاستجابة السريعة.

في نهاية المطاف، لا يمكننا منع ظهور الأوبئة، لكن يمكننا أن نستعد لها بذكاء. الذكاء الاصطناعي لا يُقدّم وصفة سحرية، لكنه يُمثل نقلة نوعية في كيفية فهمنا للأمراض، وتفاعلنا معها. إنه الشريك الرقمي الذي لا ينام، يحلل، ويتعلم، ويتطور مع كل موجة جديدة.في عالم الأوبئة فان الوقت هو الحياة، والدقة تعني النجاة. والذكاء الاصطناعي يمنحنا الأداة التي قد تُنقذ ملايين الأرواح، إذا ما استُخدمت بوعي، ومسؤولية وعدالة.

مواضيع قد تهمك