الأخبار

القس سامر عازر : «من طول الأيام أشبعه وأريه خلاصي»

القس سامر عازر :  «من طول الأيام أشبعه وأريه خلاصي»
أخبارنا :  

رحل قداسة البابا فرنسيس من عالمنا إلى عالم السماء، ومن مراسم التشييع الفاتيكاني وبعد إلقاء نظرة الوداع الأخيرة يغطى وجه البابا الراحل بقطعة حرير بيضاء اللون إشارة إلى تحويل الأنظار من رؤية الجسد إلى رؤية الأثر والتركة الكبيرة التي تركها الراحل الكبير عنا إلى ديار النور الأبدي، ويصدق فيه قول الكتاب المقدس «وإن مات يتكلم بعد».

وبالفعل فإن جنازة البابا الراحل تتكلم بأروع الصور وأقوى المعاني عن دور قداسته في حبريته التي استمرت أثني عشر عاما منذ العام 2013، فهذا الحضور العالمي الضخم في الفاتيكان من رؤساء وممثلي دول حول العالم وبحضور كنسي رفيع من كافة الكنائس حول العالم هو أكبر دليل على على مكانة هذا الرجل العظيم في حياة الشعوب والأمم والمؤسسات الدينية حول العالم،

فقد استطاع قداسة البابا فرنسيس الأرجنتيني الأصل أن ينكر نفسه ويحمل صليب المسيح ويتبعه، فقد زهد في الدنيا، فلم تغريه المادة، فرحل وهو لا يملك شخصيا أكثر من مائة دولار أمريكي، وقد اتسمت حياته بالبساطة والوداعة والسماحة والتواضع والسعي للوقوف مع الفقراء والمعوزين حول العالم وليعلّم المؤسسات الدينية حول العالم أيا كانت معنى وأمانة المسؤولية في خدمتهم ورعايتهم والعمل على إسنادهم، والعمل على تخفيف معاناتهم وتمكينهم لأنهم أغنياء بنظرالله تعالى، وأنّ واجب الدفاع عن المظلومين والمقهورين والمضطهدين ومنزوعي الحقوق هو واجب ديني مقدس وأعظم رسالة يحملها الانسان في حياته، وذلك عملا بقول السيد المسيح «كل ما فعلتم بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم». لذلك لم يكف البابا في كلماته وخطاباته ومواعظه وتأثيره القيمي والأخلاقي والإنساني على حث الدول على توفير الحياة الكريمة للفقراء والمساكين والمشردين وحتى اللاجئين، فحثَّ الدول ولا سيما الأوروبية على فتح أبوابها للغرباء والمهجرين واللاجئين وتمكينهم ودعمهم، فالمسيح نفسه كان لاجئا في طفولته مع العائلة المقدسة في مصر.

وصوت قداسة البابا فرنسيس لم يخبو في الوقوف ضد العنف والإقتتال والحروب وإزهاق الحياة البشرية وسقوط ضحايا مدنيين في بقاع شتى من العالم، ولم يتردد في تقبيل أرجل أحد القادة المتقاتلين في إحدى الدول الإفريقية لوقف النزاع المسلح ونشر السلام، وكم سعى وناشد لوقف الحرب الدائرة في أوكرانيا. ناهيك عن الوقوف مع الشعب الفلسطيني والدفع بإتجاه حل الدولتين بالطرق السياسية والديبلوماسية ودعواه حتى آخر يوم في حياته على وقف الحرب في غزة، والتضامن مع أهل غزة المنكوبين. فكم تمنى أن تنتهي المعاناة هناك قبل وفاته وأن يرى السلام العادل والشامل يخيم في فلسطين والعيش بسلام معا كأديان توحيدية تجمعنا قيم السماء الأزلية.

وللبابا فرنسيس الفضل في الإنفتاح والحوار مع الكنائس المسكونية وكل الأديان، وقد شارك شخصيا في حفل المصالحة والتقارب الكاثوليكي-اللوثري في السويد في العام 2016، بمناسبة مرور خمسمائة عام على الإصلاح اللوثري. وقد ارتقى بالعلاقات مع العالم الإسلامي إلى أعلى المستويات ورسخ مفهوم حوار الحضارات وحوار الأديان والقيم المشتركة.

وتكريما لهذه الرمزية ولهذه الشخصية الفذة الإستثنائية، شارك جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم وجلالة الملكة رانيا العبدالله المعظمة في مراسم وداع وتشييع جثمان البابا فرنسيس، الذي ربطته علاقات محبة وصداقة مع العائلة الهاشمية ومع الأردن. وقد ساهم قداسته في تسليط الضوء على الأراضي المقدسة الأردنية التي احتصنت أحد أهم الأماكن المقدسة المسيحية في العالم وهو موقع عماد السيد المسيح/المغطس على الضفة الشرقية لنهر الاردن، مما رسخ أهمية الوصايا والرعاية الهاشمية على المقدسات المسيحية كما الإسلامية في القدس وفي الأردن.

خلاصة القول، أن شخصية البابا فرنسيس شخصية إستثنائية يصعب أن تتكرر، ولكنه طبع اسمه بعد وفاته في قلوب مليارات من الناس حول العالم، وترك إرثا عالميا مقدرا علينا أن نلتقطه ونحافظ عليه، فما يجب أن يسود هو لغة المحبة لا لغة العنف، ولغة قوة المنطق لا لغة منطق القوة، والقيم الأخلاقية السامية والعلاقات الطبيعية والسليمة بين البشر، والقيم الإنسانية المشتركة التي يجب أن تزيل كل أشكال التمييز والتعصب والتكفير وتدعو للتعاون معا لبناء مجتمعات إنسانية متحابة تغلّب لغة العقل والحوار كحلٍ للنزاعات وكدعوة للتعددية الدينية والثقافية والرقية، فيسود العدل والبر والسلام.

قداسة البابا فرنسيس، لقد رحلت عنا، وإرثك وتركتك كبيرة بحجم السماء، فسلاما على روحك الطاهرة، ومثواك مع الأبرار والقديسيين. صلي لأجلنا بابا فرنسيس.ــ الدستور

مواضيع قد تهمك