حسام الحوراني : الذكاء الاصطناعي وحدود تدريب النماذج: حين تلامس الخوارزميات سقف الفهم الإنساني

عندما نتحدث عن الذكاء الاصطناعي، فإننا في الغالب نتحدث عن قوته المذهلة، وعن قدرته المتنامية على محاكاة الذكاء البشري، والإجابة عن الأسئلة، وكتابة الشعر، وتشخيص الأمراض، بل ومنافسة البشر في كثير من المهام. غير أن هذه الصورة لا تكتمل دون مواجهة سؤال أكثر عمقًا وخطورة: هل هناك حدود لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي؟ وهل يمكن للخوارزميات أن تتجاوز عتبة معينة من الفهم والتطور؟ أم أنها محكومة بسقف لا يمكنها اختراقه مهما تضاعفت البيانات والحواسيب؟
تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، وخاصة النماذج اللغوية الضخمة مثل GPT وGemini وClaude، يعتمد على مفهوم بسيط ومعقد في آنٍ معًا: تغذية النموذج بكم هائل من البيانات، وتمكينه من تعلم الأنماط، والتنبؤ، والاستجابة. هذه النماذج تُدرَّب على ملايين الصفحات من النصوص، من كتب ومقالات ومواقع تواصل اجتماعي، لتصبح قادرة على إنتاج لغة تبدو طبيعية، بل وأحيانًا مدهشة في ذكائها وبلاغتها.
لكن هنا تبدأ التحديات. أول هذه التحديات هو أن النموذج لا «يفهم» كما يفهم البشر، بل يحاكي الفهم من خلال احتمالات رياضية. فحين يُجيب النموذج عن سؤال فلسفي أو يُحلّل نصًا أدبيًا، فهو لا يملك إدراكًا عاطفيًا أو سياقيًا لما يقوله. إنه يولّد كلمات بناءً على ترجيحات إحصائية، وليس على أساس وعي حقيقي أو نية داخلية. وهذا ما يجعلنا نتساءل: هل نستطيع حقًا اعتبار هذا ذكاءً؟ أم أنه مجرد وهم ذكي؟
ثانيًا، تأتي مشكلة تحيّز البيانات. فالذكاء الاصطناعي يتعلّم مما نغذيه به. وإذا كانت البيانات الأصلية منحازة ثقافيًا أو فكريًا أو اجتماعيًا، فإن النموذج سيتبنى هذه الانحيازات، ويعيد إنتاجها دون تمحيص. والأسوأ من ذلك، أنه قد يُقدّمها في ثوب محايد وموضوعي، مما يُضلل المستخدم ويعمق الانقسام المعرفي.
ثالثًا، يواجه تدريب النماذج مشكلة نضوب البيانات ذات الجودة العالية. فقد وصلت بعض شركات الذكاء الاصطناعي إلى مرحلة استهلكت فيها معظم المحتوى المتاح عالي الجودة على الإنترنت. ومع تضخم النماذج، تزداد الحاجة إلى بيانات أكثر دقة وتنوعًا وتعقيدًا، وهي موارد محدودة بطبيعتها. هذا ما دفع بعض الشركات للجوء إلى محتويات حساسة، أو غير مفلترة، بل وحتى مملوكة لأطراف أخرى، مما يثير تساؤلات قانونية وأخلاقية حول حقوق النشر والخصوصية.
كما أن هناك حدودًا تقنية وحسابية لتدريب النماذج. فكلما كبر حجم النموذج، زادت الحاجة إلى قدرات حوسبة خارقة، واستهلاك طاقة هائل. تشير بعض التقارير إلى أن تدريب نموذج ضخم واحد قد يستهلك طاقة تعادل ما تستهلكه مدينة صغيرة. وهذا يفتح بابًا جديدًا من التساؤلات حول استدامة هذه التقنيات في ظل أزمة المناخ والطاقة.
لكن التحدي الأكبر ليس في التقنية، بل في سقف الفهم ذاته. هل يمكن لنموذج مبني على المحاكاة أن يصل إلى مستوى من الفهم الإنساني العميق، الذي يعتمد على التجربة، والعاطفة، والوعي، والضمير؟ هل يمكن لنموذج أن يفهم الألم دون أن يشعر به؟ أن يكتب عن الحب دون أن يخفق له قلب؟ أن يحلل السياسة دون أن تكون له مصلحة أو موقف؟
هذا التوتر بين «الذكي» و»الواعي» هو ما يحدد حدود تدريب النماذج. فحتى وإن بلغت قدرتها اللغوية درجة الكمال، فإنها تظل عاجزة عن الإمساك بجوهر المعنى الإنساني. هي تتقن اللغة، لكنها لا تعيشها. وهنا يكمن الفارق الجوهري بين الذكاء الاصطناعي والذكاء البشري.
مع ذلك، لا يمكن التقليل من قيمة هذه النماذج. فهي أدوات قوية يمكن أن تُحدث ثورة في التعليم، والصحة، والصحافة، والصناعة، إذا ما استُخدمت بحكمة. لكنها في ذات الوقت تحتاج إلى رقابة، وتقييم أخلاقي، وإدراك واعٍ لحدودها وإمكاناتها.
الذكاء الاصطناعي لا يجب أن يُنظر إليه كبديل عن الإنسان، بل كمكمل له، وكأداة تعكس ذكاءنا وتزيد من إمكاناتنا، لا أن تسلبها. تدريب النماذج يجب أن يكون علمًا يخضع للمعايير، لا سباقًا بلا هدف. وأن يكون مدفوعًا بفهم عميق للإنسان، لا فقط برغبة في محاكاته.
في النهاية، حدود تدريب النماذج ليست تقنية فقط، بل فلسفية وأخلاقية وإنسانية. والسؤال الحقيقي الذي علينا أن نطرحه ليس: «إلى أي مدى يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُدرّب؟» بل: «ما الغاية من هذا التدريب؟ ومتى نعلم أننا تجاوزنا الحد الذي ينبغي ألا يُتجاوز؟» ربما آن الأوان لأن ندرّب أنفسنا على العيش مع ذكاء لن يكون يومًا بشريًا، لكنه سيظل مرآة حادة لانعكاسنا الرقمي.