د. رعد محمود التل : مراجعة ثالثة مع صندوق النقد.. أين يقف الاقتصاد الأردني؟ (2-2)

يمثل الاتفاق الأخير على مستوى الخبراء بين الحكومة وصندوق النقد الدولي حول المراجعة الثالثة في إطار «تسهيل الصندوق الممدد» إشارة واضحة على ثبات السياسة الاقتصادية الأردنية، رغم ما تمر به المنطقة من توترات سياسية واقتصادية. كما يشير التقدم نحو ترتيب جديد ضمن برنامج «تسهيل المرونة والاستدامة» يهدف إلى توسيع أفق الإصلاح ليشمل قضايا هيكلية عميقة وطويلة الأمد.
لا شك أن الأردن أمام مفترق طريق اقتصادي، ما بين استقرار اقتصادي تم تحقيقه ونرغب بالمحافظة عليه، وإصلاحات هيكلية لا تزال في طور البناء. فإما أن يتم استغلال الدعم الدولي والزخم الحالي للدخول في مرحلة نمو مستدام وشامل، أو أن تستمر الإصلاحات بوتيرة بطيئة تعيق تحقيق الأهداف المعلنة. فالفرص قائمة، لكنها مشروطة بالاستمرار في تنفيذ تلك الإصلاحات العميقة والشاملة. لكن مسار التحديث الاقتصادي في النهاية يعتمد على الإرادة الذاتية، وقدرة المؤسسات الحكومية بالتعاون مع القطاع الخاص على التنفيذ الفعّال والمساءلة. لذلك يمك? قراءة مراجعة الصندوق الاخيرة من جوانب ستة أساسية. استعرضنا بالمقال السابق 3 منها ونستكمل الباقي في هذا المقال.
رابعاً: إصلاحات مالية مستمرة حتى 2028، فقد أكد البيان التزام الحكومة الاردنية بتخفيض الدين العام إلى 80% من الناتج المحلي بحلول عام 2028، من خلال إجراءات مستمرة في تحسين الإيرادات وكفاءة الإنفاق. ويُتوقع أن تتم هذه الخطوات دون التأثير على الإنفاق الاجتماعي والتنمية الأساسية، وهو توازن دقيق بين الانضباط المالي والحماية الاجتماعية. ذلك طبعاً يعكس الالتزام والوعي الضروري بأن السياسة المالية لا يجب أن تكون فقط أداة توازن حسابي، بل أداة توازن اقتصادي واجتماعي. ومن هنا، فإن استمرارية هذا النهج تتطلب توسيع القاعد? الضريبية، والحد من التهرب، وتحسين أداء المؤسسات العامة.
خامساً: تحديات سوق العمل والإصلاحات غير المكتملة، فرغم الإصلاحات الهيكلية، إلا أن سوق العمل الأردني لا يزال يواجه تحديات كبيرة، أبرزها ارتفاع معدلات البطالة، لا سيما بين الشباب والنساء. وهنا، لا يكفي الحديث عن مشاريع أو إصلاحات عامة، بل نحتاج إلى تدخلات نوعية، مثل إصلاح نظم التعليم والتدريب المهني، ورفع مرونة سوق العمل، وتوسيع نطاق برامج ريادة الأعمال. وهو ما تعمل عليه وزارة العمل مؤخراً وبصورة جادة.
كما أن بيئة الأعمال لا تزال تعاني من بيروقراطية معقدة، ونقص في التنافسية، وضعف في النفاذ إلى التمويل. لذلك فإن تسريع الإصلاحات في هذه الجوانب يمثل شرطاً أساسياً لتحويل أي نمو إلى فرص عمل حقيقية.
سادساً: نقاط القوة يجب البناء عليها، فما تحقق حتى الآن لا يجب التقليل من شأنه. فالأردن نجح في الحفاظ على استقراره الاقتصادي في ظل أزمات متلاحقة. كما أن ثقة المؤسسات الدولية، بما في ذلك صندوق النقد، تعكس قدرة الأردن على الوفاء بالتزاماته وتنفيذ الإصلاحات المطلوبة.
البنك المركزي يتمتع بمصداقية قوية، والقطاع المصرفي متين، والاحتياطيات الأجنبية مريحة. هذه جميعها عوامل تمثل قاعدة صلبة لأي تحول اقتصادي من الاستقرار إلى النمو المستدام. فقد سجّل الناتج المحلي الإجمالي نمواً بنسبة 2.7% خلال الربع الرابع من عام 2024، متجاوزاً التقديرات السابقة التي توقعت نمواً عند 2.5%. هذا الأداء يفوق أيضاً معدل النمو السنوي الذي بلغ 2.5%، ما يشير إلى تسارع نسبي في النشاط الاقتصادي خلال نهاية العام. هذا النمو الاقتصادي أتى مدعوماً أيضاً بتجاوز الاحتياطات الأجنبية للبنك المركزي 21 مليار دولا?، وانخفاض معدل الدولرة إلى 18.4% في نهاية عام 2024، فضلاً عن انخفاض معدل التضخم إلى 1.6% وتوقع استقراره حول 2% في العام 2025.
البيان الأخير لصندوق النقد ليس فقط شهادة على الأداء الجيد، بل هو أيضاً رسالة بأن الطريق لا يزال طويلاً، وأن استدامة النجاح تتطلب الكثير من الجهد والشجاعة، والشفافية، والمشاركة الحقيقية من كل الأطراف لتحسين واقع الاقتصاد الأردني. فلا يكفي الاعتماد على التمويل الخارجي أو المؤشرات الكلية وحدها، بل يجب ترجمة الإصلاحات إلى واقع ملموس يشعر به المواطن من حيث فرص العمل، وتحسن مستوى الخدمات، واستقرار الأسعار. نجاح الأردن في المرحلة القادمة يعتمد على قدرته في تحويل توصيات رؤية التحديث الاقتصادي إلى سياسات قابلة للتن?يذ، وعلى بناء توافق وطني واسع يدعم هذه الإصلاحات ويضمن استمراريتها.
رئيس قسم الاقتصاد - الجامعة الاردنية