د. نضال القطامين يكتب : شمالا في لندن، في كل الجهات في عمّان

اليوم، على مقربة من ضفاف التايمز، حيث تمخر المراكب عرض المياه بصمت وحكمة، لاح لي المشهد واسعا كبيرا، مدينة تنبض بالحياة، مغلفة بعراقة الماضي وبريق الحاضر، لا ضوضاء عبثية، ولا شعارات تطغى على الدولة، وطن منظم، يعلو فيه صوت القانون لا هتافات الفوضى.
ومثل نائم أيقظه الضجيج، اعتدلت في جلستي وتساءلت بمرارة وحنق، ما الذي ينقصنا؟ هل نفتقد للموارد؟ للعقول؟ أبدًا. لا يعوزنا سوى الرؤية الثاقبة والإنتماء الحقيقي، والقدرة على تقديم "الوطن” فوق كل شيء.
ثم اختالت بي الأحلام لتعرج بي على "هايد بارك”، حيث ترتفع العقائر ويُقال ما يُقال، دون أن يخرج الخطاب عن ثوابت الدولة.
أن الحرية في لندن ليست عشوائية، إنها محروسة بفكرة الوطن، مؤطرة بالقانون. فحدثتني نفسي بهايد بارك عربي بالشروط الوطنية، نقول فيها ما يحلو لنا القول، في إطار الوطنية والقانون، وقلت بصوت علا على صوت محركات المراكب في النهر، أننا أحوج ما نكون اليوم لإعادة توضيح كامل لا يقبل العاطفة، وتفسير حقيقي لا علاقة له بسلالمها، لأسس ومعايير نشاطات المكوّنات السياسية في المملكة، وبيان مدى اتساقها مع الخط الوطني العام للدولة، ذاك الذي تحكمه مصالح الوطن وتمنح فيه هوامش ومساحات محكومة بالولاء والإنتماء لهذه المصالح، حيث يمكن لهذه المكونات في حدود هذه المساحة، أن تعبّر وفق ما تشاء عن آرائها ومبادئها وأن تستقطب الناس بالعاطفة وبالخطاب، دون قفز ولا مزاودة ولا تخوين .
نحن أحوج ما نكون اليوم، وقد كشفت مخططات التصنيع العسكري التي وأدها رجال الحق في مهدها، إلى إعادة صياغة خطاب جديد يمكن فيه للمكونات السياسية أن تمارس العمل السياسي العام، وفق قواعد مؤطّرة بغلاف الخط الوطني العام، وبحاجة أكثر إلى تفهم هذه المكونات، ظروف الدولة واستقلالها ومصالحها واقتصادها، وقبل ذلك وبعده أن تبنى هذه المكونات وأشكالها السياسية من أحزاب وجمعيات، على فكرة الوطن المستقل الواحد الذي لا يمكن أن يكون بديلا لأحد، وأن من نماذج خيانته أن يكون ساحة لصراعات القوى المعقدة.
نحن أحوج ما نكون اليوم لإعادة تشكيل لساحات الهتاف العامة تلك التي خرجت عن ضوابط الوطنية ومسّت في بعض شعاراتها مؤسساتنا التي قدمت ما يمكن لاحد أن يقدمه في الدم والشهادة والنصر، إجراء مراجعة شاملة لتكون هذه المنابر في صورتها الوطنية البحتة.
ما أحوجنا اليوم إلى أحزاب تُبنى على أساس الولاء للوطن، لا على تمويل خارجي، ولا على ردود أفعال عاطفية، وإلى ميادين هتافات تبقى داخل حدود الوطن، لا خارجه، نحن بأمسّ الحاجة إلى معارضة وطنية، لا تهاجم الدولة ولا تخوّنها، ولا تمس ثوابتها، بل تراقب، وتقترح، وتبني.
الخطر الأكبر ليس في الأعداء، بل في من لا يرى أن الدولة فوق كل اعتبار، ليس في نقص الموارد، بل في غياب الوعي، وتفشي الأنانية، وانتشار الشك في كل ما هو وطني، فلنُعد ترتيب البيت الداخلي، ولنصغ خطابًا وطنيًا جديدًا لا يُقصي أحدًا، لكنه لا يسمح بتجاوز الثوابت، لا يقدّس الشعارات، لكنه يحفظ الدولة، ولا يُخون المخالف، لكنه لا يسمح ببيع الوطن على طاولة المزايدات.
يعيش العرب اليوم لحظة غريبة، مفصلية واستثنائية، يروا إعادة ترتيب العالم دون أن يكونوا جزءً من عملية الترتيب. الثروات تُستنزف، والقرار السياسي مرهون بالتداعيات، حيث تُستخدم الشعوب وقودًا في صراعات لا تملك أدواتها.
والاستعمار عاد كأنه لم يغادر، لا دبابات، بل شركات متعددة الجنسيات، ولا ضباط احتلال، بل مستشارون يكتبون السياسات، ولا جنود في الشوارع، بل قنوات ومنصات تبث الفتنة والتخدير، وهذا ما نعيشه اليوم أحزاب تتكلم كثيرًا… وتفعل قليلًا، ومنابر تعج بالشعارات لكنها تفتقر للمسؤولية، ورموز سياسية لا تفهم أن المعارضة لا تعني التخوين، ولا تعني السعي لهدم الدولة تحت ذريعة التعبير.
رأيت في لندن كيف تصنع الدول لنفسها هيبة لا تُشترى، وكيف تُبنى على قرون من الثبات والتوازن، والقيادة المحايدة التي تحترم نفسها فيحترمها العالم، وتفرض احترامها دون صخب. كم نُفتقد هذا التوازن في عالمنا العربي، وكم نُفرط في استعمال العاطفة على حساب الفهم، والانتماء الحقيقي، والرؤية التي تُقدّم "الوطن" على كل شيء.
لكن بعض الساحات في بلاد العرب ما زالت تغلب عليها الفوضى وتُسخّر لشعارات خارجية، آن الأوان لإعادة ضبط البوصلة الوطنية، فلا منبر يهدم، ولا حزب يُؤسس على ردود أفعال عاطفية، ولا نشاط يُسمح له بتجاوز ثوابت الدولة تحت ذرائع الانفتاح والتغيير. ما أحوجنا اليوم إلى وعي سياسي يفهم أن الوطن ليس ميدانًا لتصفية الحسابات، ولا ساحة لاستعراض الشعارات، بل كيان حي يحتاج من يرعاه لا من يتصارع فوقه.
غير أني عبر كل هذه المشاعر وفي كل تفاصيلها، أرى ضروة استدعاء وضوح هذه الدولة وحيادها. على الدوام قلت واقول أننا نملك قيادة متزنة محايدة، تقف وسط إقليم ملتهب، باحترام وثقل دولي مكتسب عبر عقود من المواقف.
قال الله تعالى:
"إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ” صدق الله االعظيم (الرعد: 11)