أ. د. محمد عبده حتاملة : التفتت الديني والقومي عند اليهود

الحلقة العاشرة
خاض اليهودية، داخل فلسطين وخارجها، عملية تفتت على المستويين الديني والقومي. ولذلك، يمكن القول بأن تحطيم الهيكل على يد تيتوس لم يكن سببا مباشرا في القضاء على الهوية العبرانية اليهودية، وإنما كان تجسيدا لعملية تاريخية مركبة أدت إلى القضاء على هذه الهوية وإلى تفتيتها، ولم يكن تحطيم الهيكل سوى تعبير نهائي عن هذه العملية. فأثناء الحرب الرومانية، استسلم قائد قوات الجليل (يوسيفوس فلافيوس) للرومان ثم انضم إليهم، كما فر (يوحنان بن زكاي) من القدس أثناء حصارها، وكلاهما كان من الفريسيين الذين انضموا إلى صفوف المتمردين على مضض.
وقد سمح الرومان ليوحنان بن زكاي بتأسيس مدرسة يفنه الدينية التي تمت فيها صياغة اليهودية المعيارية أو اليهودية الحاخامية المنفصلة تماما عن العبادة القربانية، وهو النسق الديني الذي نعرفه، بينما اختفت القوى الأخرى مثل الأسينيين (الذين استوعبوا في المسيحية) والصدوقيين وغيرهم.
ويمكن القول بأن الهوية العبرانية والهوية العبرانية اليهودية ذات التوجه القومي قد اختفتا تماما عند هذه النقطة التاريخية، وظهرت مراكز عديدة في بابل والإسكندرية. ولا يمكننا التحدث منذ ذلك التاريخ عن «عبرانيين» ولا عن «عبرانيين يهود»، وإنما عن «أعضاء الجماعات اليهودية»، وعن هوياتهم المختلفة، وقد حدث تمرد يهودي بقيادة شمعون بركوخبا (132-136 م)، فقضى عليه الإمبراطور هارديان، وأصدر مرسوما بهدم القدس. ولكن، ومع ذلك، حينما منحت المواطنة لكل سكان الإمبراطورية عام (212 م) لم يستثن اليهود من ذلك، وأصبحوا مواطنين رومانيين.
ويمكننا أن نحصر هنا بعض الهويات اليهودية مستخدمين معيارين، أحدهما ديني والآخر قومي أو إثني. فعلى المستوى الديني، كان هناك:
السامريون، كتجمع ديني، مقابل بقية اليهود الذين كانوا ينقسمون بدورهم إلى عدة فرق لكل فهمه الخاص اليهودية، ومن أهما: الصدوقيون والفريسيون.
وإذا ما أخذنا بالمعيار الإثني، يمكننا الإشارة إلى يهود فلسطين المتأغرقين، وكانوا يتركزون أساسا داخل المدن وفي أوساط الأثرياء. ورغم أن التأغرق معيار إثني، إلا أنه يحمل تضمينات دينية، إذ أن اليهود المتأغرقين كانوا يقفون ضد كثير من الطقوس الدينية، ويحاولون التملص منها بل والقضاء عليها بالتعاون مع الدولة السلوقية الهيلينية. وهناك يهود فلسطين (الساميون)، الذين كانوا يتحدثون الآرامية ويتركزون في الريف. كما كان هناك يهود فلسطين (المتهودون) من أبناء الأدوميين وغيرهم. وهناك يهود مصر المتأغرقون (ويبدو أنه كانت هناك جماعة يهودية خارج الإسكندرية اكتسبت أيضا الهوية المصرية المحلية ولم يكن أعضاؤها يصنفون ضمن المتأغرقين). وهناك أيضا يهود جزيرة إلفنتاين وكانوا يتحدثون الآرامية، وأخيرا يهود روما (الذين كانوا يتحدثون اليونانية واللاتينية). كما كانت توجد جماعات يهودية في آسيا الصغرى وفي ليبيا (برقة)، وفي أنحاء متفرقة من أوروبا، ويمكن أن نذكر أخيرا أهم هذه الإمبراطورية الهيلينية ثم عن الدولة الرومانية. وقد اكتسب أعضاء هذه الجماعات كثيرا من السمات الإثنية من المحيط الحضاري الذي كانوا يعيشون فيه، الأمر الذي أدى إلى قدر هائل من التنوع وعدم التجانس. وستظل هذه هي السمة الأساسية والعامة للهويات اليهودية المختلفة التي ظهرت عبر العصور، وفي مختلف المناطق.
ومما زاد من عدم تجانس الجماعات والهويات اليهودية، انتشار اليهود في كل أنحاء العالم ودون وجود سلطة مركزية دينية أو قضائية في فلسطين أو في غيرها من الأماكن. كما لم تكن توجد في العالم القديم وسائل مواصلات أو إعلام تقرب بين أطراف العالم كما يحدث الآن، لكل هذا، تطورت كل جماعة يهودية على حدة، بمعزل عن الأخرى، على المستويين الديني والقومي.
ــ الدستور