د. رعد محمود التل : «ذهبُ المركزي» في الميزان: هل هناك ما يدعو للقلق؟

لا تقتصر أهمية الاحتياطات من الذهب في البنوك المركزية على كونها مخزونًا استراتيجيًا، بل تشكل أيضًا إحدى أدوات السياسة النقدية التي تتيح للبنوك المركزية المرونة في التعامل مع المتغيرات الاقتصادية.
ومع ارتفاع المخاطر الجيوسياسية المحيطة في الاردن وتقلبات الأسواق المالية، يمثل الذهب أداة تحوط فعالة للبنك المركزي ضد التضخم وتقلبات العملات الأجنبية، مما يجعل وجود احتياطي قوي منه عاملاً مساعدًا في دعم استقرار الدينار الأردني.
لكن وللأسف وكالعادة، انتشرت في الآونة الأخيرة العديد من الاشاعات غير الدقيقة والتي تبتعد عن الحقيقة حول موجودات الذهب لدى البنك المركزي الأردني. هذه الاشاعات غالبًا ما تكون نتيجة تحليلات غير دقيقة أو تفسيرات مبالغ فيها أو لمجرد كسب للشهرة على حساب المصلحة الوطنية! طبعاً ترك تلك الأقاويل دون توضيح قد يؤثر على تصورات المتعاملين في الاقتصاد الاردني، مما يستدعي وضع إدارة موجودات الذهب لدى البنك المركزي تحت المجهر لتفنيد هذه الاشاعات ووضع الأمور في سياقها الصحيح.
فكما هو معروف (أو يفترض بانه معروف لأي اقتصادي)، يُدير البنك المركزي موجوداته وفقًا لقانونه وأهداف سياسته النقدية واستراتيجيته الاستثمارية المعتمدة من قبل مجلس الإدارة. ومن الناحية العملية، يتبع البنك المركزي نهجًا متوازنًا في إدارة موجوداته الأجنبية، يراعي التوازن بين الودائع قصيرة الأجل السائلة والاستثمارات طويلة الأجل لتعظيم العوائد مع ضمان السيولة الكافية. وفي هذا السياق، يلتزم البنك المركزي بإطار استثماري «محافظ» يركز على الأمان والسيولة ثم العائد.
ولتقليل المخاطر، يستثمر البنك في السندات السيادية ذات التصنيف الائتماني العالي، والودائع الأجنبية السائلة، والأصول المتنوعة التي تقلل من تقلبات الأسواق. كما تشرف لجنة الاستثمار التابعة للبنك المركزي على إعادة تقييم مكونات المحفظة بشكل مستمر، مما يمنح البنك القدرة على التكيف مع التغيرات في أسعار الفائدة العالمية وأسعار الصرف وظروف الائتمان.
وفي هذا الإطار، تعد إدارة موجودات الذهب جزءًا أساسيًا من سياسات البنك المركزي الأردني، حيث تُعتبر هذه الموجودات عنصرًا بالغ الأهمية في دعم الاستقرار النقدي والمالي، وتعزيز الثقة في النظام المصرفي. وكما هو الحال في البنوك المركزية حول العالم، يقوم البنك المركزي الأردني ببيع كميات محدودة ومخصصة للمتاجرة لا تمس المخزون الاستراتيجي من الذهب، وذلك عندما ترتفع أسعاره عالميًا، ليعيد شراء كميات أخرى عند انخفاض الأسعار. هذا الإجراء يُعد جزءًا من سياسة روتينية تهدف إلى الحفاظ على الاحتياطيات الأجنبية، وتحقيق أرباح ر?سمالية تُغطي نفقات السياسة النقدية، وتُمكن البنك المركزي من رفد الخزينة بنسبة 80% من الأرباح المتحققة، وفقًا لقانون البنك المركزي.
بلغة الارقام، تظهر البيانات أن البنك المركزي الأردني ينتهج استراتيجية متوازنة في عمليات البيع والشراء، حيث شهدت موجودات الذهب نموًا ملحوظًا على مدار السنوات الماضية. فوفقًا للنشرة الإحصائية الشهرية -المعلنة- للبنك المركزي، تضاعفت موجودات الذهب منذ عام 2010 بنحو ستة أضعاف، من 0.410 مليون أونصة بقيمة 412 مليون دينار، إلى 2.318 مليون أونصة بقيمة 4.8 مليار دينار في شباط 2025.
كما تمكن البنك المركزي من تحقيق أرباح قياسية في عام 2024، أسهمت في زيادة رأسماله ورفد الخزينة بما مقداره 75.2 مليون دينار من هذه الأرباح.
وتشير هذه الأرقام إلى نجاح البنك المركزي في إدارة موجوداته من الذهب بكفاءة، مما يعزز استقرار الاحتياطيات الأجنبية، والتي تجاوزت 21 مليار دولار، وفقًا لأحدث البيانات الرسمية. هذه الاحتياطيات تشكل درعًا واقية تحمي الاقتصاد الوطني من التقلبات العالمية، وتعزز ثقة المستثمرين والمجتمع الدولي بمتانة الاقتصاد الأردني.
هل يخفي البنك المركزي أرقامه عن الجمهور والباحثين والمتعاملين؟ الاجابة تجدها ببساطة على موقع البنك الالكتروني والذي هو مرجع هذا المقال! فمن المهم الإشارة إلى أن البنك المركزي الأردني ملتزم بأقصى درجات الشفافية في إدارة احتياطياته، حيث ينشر تقاريره الشهرية حول قيمة وهيكل الاحتياطيات الأجنبية، مما يتيح للجمهور والجهات الرقابية متابعة تطورات الأصول والاحتياطيات النقدية بشكل منتظم. فاعتماد البنك على الحوكمة الرشيدة والإفصاح المالي يعزز الثقة بقراراته، ويؤكد أن أي تحليلات غير قائمة على البيانات الرسمية ليست سوى?اجتهادات غير دقيقة قد تضر بالثقة في الاقتصاد دون مبرر.
من الضروري التعامل مع المعلومات بموضوعية، والاعتماد على البيانات الرسمية الصادرة عن البنك المركزي، بدلاً من الانسياق وراء الاشاعات والتفسيرات غير المستندة إلى حقائق. فتجاهل الحقائق والانجرار وراء التحليلات المغلوطة (خاصة من غير المختصين) لا يخدم إلا أجندات تهدف إلى تقويض الثقة بالاقتصاد الوطني، بينما تؤكد الأرقام والوقائع عكس ذلك. فنجاح البنك المركزي في إدارة موجوداته من الذهب، إلى جانب تنامي الاحتياطيات الأجنبية، يعزز قدرة الأردن على مواجهة التحديات الاقتصادية بثقة وثبات، ويضع أسسًا راسخة للنمو والاستقرار?في المستقبل.
رئيس قسم الاقتصاد – الجامعة الاردنية
ــ الراي