هاني الهزايمة : عالم بلا إنسانية: حين تصرخ غزة والعالم يحتفل
في زمن أصبح فيه البذخ عنوانًا، والاحتفالات مقياسًا للسعادة، يبدو أن الإنسانية قد غابت عن قلوب البشر، واختفت معاني الرحمة والتعاطف. في الوقت الذي يضيء فيه العالم سماءه بالألعاب النارية احتفالًا بعام جديد، تغرق غزة في ظلام الألم والمعاناة. بين صرخات الأمهات الثكلى، ودموع الأطفال التي تجف على وجوههم البريئة، يعيش أهل غزة شتاءً قاسيًا في مخيمات لا تقيهم بردًا ولا تحميهم من زمهرير.
كيف وصلنا إلى هذا المستوى من اللاإنسانية؟ كيف أصبحنا شعوبًا مفصولة عن الواقع، لا ترى سوى ما يرضي رغباتها، ولا تسمع سوى ما يطرب أذانها؟ في الوقت الذي تتراقص فيه الملايين على أنغام الموسيقى، هناك أطفال في غزة ينامون على أرض باردة، دون غطاء أو وسادة. لا يعرفون معنى الاحتفال، ولا يفهمون لماذا يتجاهلهم العالم.
لقد أصبح العالم كيانًا مزدوجًا، يعيش في فقاعة من الرفاهية واللامبالاة، بينما يتجاهل الألم الذي يعيشه الآخرون. كيف يمكن للإنسان أن يحتفل بقدوم عام جديد، وهناك أرواح تكافح للبقاء على قيد الحياة؟ كيف يمكن أن ينام مطمئنًا، وهناك أطفال لا يجدون قطعة قماش ناشفة تقيهم البرد؟
في غزة، تصرخ الأمهات الثكلى، وتبكي على أطفالهن الذين فقدوا حياتهم أو طفولتهم تحت الأنقاض. صرخاتهن تمزق القلوب، لكن يبدو أن العالم قد أصبح أصمًا. دموع الأطفال التي كانت يومًا ما قادرة على تحريك الجبال، لم تعد تجد من يسمعها أو يشعر معها.
إنها مأساة حقيقية أن نعيش في زمن تنقطع فيه صلة البشر ببعضهم البعض. نظرات الأطفال البريئة، التي تحمل في أعماقها تساؤلات عن سبب هذا الظلم، لم تعد تجد من يجيب. كل ما يجدونه هو الصمت، والإهمال، والتجاهل.
في الوقت الذي تُنفق فيه الملايين على حفلات رأس السنة، هناك عائلات في غزة لا تجد ما يسد رمقها. في الوقت الذي تُضاء فيه الشوارع بالأضواء البراقة، هناك مخيمات يغمرها الظلام. هذه المفارقة الصارخة ليست مجرد دليل على الفجوة الاقتصادية بين الشعوب، بل هي شهادة على موت الإنسانية في قلوب الكثيرين.
كيف يمكن للعالم أن يقيم الاحتفالات، بينما هناك أطفال في غزة يرتجفون من البرد، يبحثون عن دفء لا يجدونه؟ كيف يمكن أن تُنفق الأموال على أشياء تافهة، بينما هناك من يموت جوعًا أو بردًا؟
«مالكم، كيف تحكمون؟» هذه الكلمات التي نطق بها القرآن الكريم تلخص حال البشرية اليوم. كيف أصبحنا نحكم على الأمور بميزان مختل؟ كيف نقبل أن نفرح ونحتفل، بينما هناك من يعاني أشد المعاناة؟
لقد وصلنا إلى مستوى تشمئز له الأنفس. لم يعد الأمر مجرد تجاهل أو قلة اهتمام، بل أصبح اختيارًا واعيًا بالابتعاد عن معاناة الآخرين. أصبحنا نعيش في عالم لا يرى فيه الإنسان أخاه الإنسان.
لقد أصبحت غزة رمزًا للمعاناة الإنسانية، وصورة صارخة للظلم الذي يعاني منه الأبرياء. ومع ذلك، يبدو أن الضمير العالمي قد اختفى. أين هي المؤسسات الدولية التي تتغنى بحقوق الإنسان؟ أين هي الأصوات التي كانت تدافع عن المظلومين؟
إن ما يحدث في غزة ليس مجرد مأساة محلية، بل هو اختبار للإنسانية جمعاء. إذا لم يتحرك العالم لإنقاذ هؤلاء الأبرياء، فما الفائدة من وجود القوانين الدولية والمنظمات الإنسانية؟
شتاء غزة ليس مجرد فصل من فصول السنة، بل هو مرآة تعكس حال الإنسانية اليوم. عندما تنظر إلى طفل يرتجف من البرد في مخيمات غزة، فأنت ترى انعكاسًا لقسوة العالم. عندما تسمع صرخة أم فقدت طفلها، فأنت تسمع صدى لتخاذل البشرية.
إن الظروف التي يعيشها أهل غزة ليست مجرد نتيجة للحرب، بل هي نتيجة لصمت العالم. صمتنا نحن، وصمت كل من يملك القدرة على التغيير ولكنه يختار أن يلتزم الصمت.
لا يمكننا أن نستمر في هذا الطريق. لا يمكننا أن نقبل بأن نعيش في عالم بلا إنسانية. علينا أن نعيد التفكير في أولوياتنا، وأن نضع معاناة الآخرين في مقدمة اهتماماتنا. إن غزة ليست مجرد مكان على الخريطة، بل هي رمز للمعاناة والصمود. إذا لم نتحرك لإنقاذ أهلها، فإننا نخسر جزءًا من إنسانيتنا. علينا أن نتذكر أن الاحتفالات الحقيقية لا تكون على حساب الآخرين، بل تكون بمشاركتهم في الفرح والأمل.
غزة تصرخ، والعالم يحتفل. لكن الأمل لم يمت بعد. لا يزال هناك وقت لإعادة النظر، لإعادة التفكير، ولإعادة الإنسانية. لأن العالم بلا إنسانية ليس عالمًا يستحق أن نعيش فيه . ــ الراي