د. محمد العرب : أمةٌ تَستَهلك فتَفنى
في عالم يزدهر بالتكنولوجيا والاستهلاك، تبرز ظاهرة الشعوب المستهلكة، وهي الشعوب التي تتكئ على نمط استهلاكي غير متوازن، حيث ينصبّ اهتمامها على استهلاك ما ينتجه الآخرون دون تطوير أو إنتاج ذاتي وهذه الظاهرة تتجاوز البعد الاقتصادي، لتصل إلى عمق النفس البشرية، فتشمل الجوانب النفسية، والفلسفية، والاجتماعية، والسياسية، لتخلق حلقة مفرغة تهدد كيان المجتمع من الداخل.
على الصعيد النفسي، يعكس الاستهلاك المفرط حالة من العجز أمام العالم المتقدم، حيث يخلق لدى الأفراد رغبة قوية في امتلاك كل جديد دون وعي حقيقي بقيمته أو ضرورته ويشير علماء النفس إلى أن الاستهلاك المفرط ينبع من رغبة في تعزيز الهوية الشخصية التي باتت تتشكل من خلال اقتناء السلع، مما يؤدي إلى تعزيز الشعور بعدم الاكتفاء، وبالتالي يظل الفرد يبحث عن إشباع لا يتحقق ، وفي هذا السياق، ينشأ الاغتراب النفسي، حيث يصبح الأفراد أكثر بعدا عن جوهر حياتهم وذواتهم، فبدلاً من البحث عن سعادة حقيقية، ينشغلون بملاحقة سعادة مؤقتة يظنون أنها تكمن في الشراء والاستهلاك.
فلسفياً، ترتبط ظاهرة الشعوب المستهلكة بإشكالية التبعية للآخر وعدم القدرة على بناء هوية ذاتية مستقلة !
الفيلسوف الألماني هربرت ماركوز يرى أن الاستهلاك المفرط يعزز العبودية الحديثة، إذ يقود الأفراد إلى الرضا بالواقع دون التفكير في تغيير الظروف المحيطة وهذه الظاهرة تخلق مجتمعاً فاقداً للروح النقدية، ينظر إلى ما حوله بتقبل أعمى، ويتخلى عن الطموح في الإبداع والتطوير. إن اعتماد الشعوب المستهلكة على إنتاجات خارجية، دون العمل على تحقيق اكتفاء ذاتي، يمثل شكلاً من أشكال السطحية الفلسفية، حيث يعيش المجتمع على قشور الحياة دون الوصول إلى عمقها.
أما اجتماعياً، فالشعوب المستهلكة تُحْدِث شروخاً عميقة في بنية المجتمع، حيث يتحول الإنسان من كائن منتج وفاعل في مجتمعه إلى مستهلك يكتفي بالبحث عن الرفاهية السطحية ، وهنا تنشأ الفجوة بين الأجيال، إذ ينمو الشباب في بيئة تعزز لديهم قيمة الاستهلاك على حساب التعلم والتطوير. ويؤدي ذلك إلى تآكل القيم الاجتماعية من تكافل وتضامن، حيث يُختزل النجاح في القدرة على اقتناء الأشياء، لا في القدرة على بناء مجتمع قوي، مما يخلق بيئة اجتماعية هشة تعتمد في بقائها على قوى خارجية، وتتسم بعزوف الشباب عن تحمل المسؤولية والمساهمة الفعالة في تطوير المجتمع.
سياسياً، تُعتبر الشعوب المستهلكة عبئاً على الدول التي تعاني من عدم تحقيق الاكتفاء الذاتي. التبعية الاقتصادية لدولٍ منتجة تجعل القرار السياسي هشاً وغير مستقل، حيث تعتمد الشعوب المستهلكة على استيراد معظم احتياجاتها من الخارج، ما يضعف موقفها أمام الضغوط السياسية. هذا الاستهلاك غير المتزن يجعل الدول عرضة للاستغلال الاقتصادي، حيث يُفرض عليها الانصياع لسياسات القوى الاقتصادية الكبرى، مما يعزز الهيمنة ويزيد من تبعيتها ويضعف من قدرتها على حماية مصالحها الوطنية.
إن الحل لا يكمن في إلغاء الاستهلاك، فهو جزء من الحياة الحديثة، بل في إعادة تشكيل مفاهيمه. يجب أن يتحول الاستهلاك من غاية إلى وسيلة، ومن رغبة إلى حاجة حقيقية، وأن يرافقه إنتاج يعزز من كيان المجتمع. فمجتمع يستهلك دون إنتاج يُكتب له الفناء، ومجتمع يبني مستقبله على استهلاك ما ينتجه الآخرون، يظل عالقاً في دائرة التبعية، فاقدًا للهوية والاستقلال. ــ الدستور