د. محمد العرب : السؤال خيانة أم ولادة جديدة للحقيقة؟
في أعماق كل منظومة فكرية، اجتماعية أو سياسية، يترسخ السؤال كقوة خفية تهز أركان الثوابت وتعيد تشكيل الحدود بين المعرفة والجهل. لكن السؤال ذاته، هذا الفعل الذي يبدو بريئًا، طالما حُوكم بوصفه خيانة أو تمردًا. هل السؤال أداة هدم أم ولادة جديدة للحقيقة؟ أم أن محاكمته تعكس خوف الإنسان من مواجهة ما يختبئ خلف ستار الأجوبة الجاهزة؟
لطالما كان (سقراط ) الشخصية الأفلاطونية المتخيلة أيقونة السؤال المستفز وكان أفلاطون يتوارى خلفه ليُعلّم الناس كيف يسألون ويشكّون ؟
كان أفلاطون يعتقد أن الحقيقة كائن حي، لا يُمسك بها إلا بطرح الأسئلة حول كل شيء ، لكن في مجتمع أثينا، كان التشكيك في الآلهة والمسلمات خرقاً للقيم العليا، وكان السؤال نذيراً بفوضى فكرية يخشاها النظام السياسي والاجتماعي ، هنا نلمس مأزقاً تاريخياً : الحقيقة بالنسبة لأهل السياسة هي استقرار لا يقبل الشك، أما بالنسبة للفكر الحر فهي حركة لا تقبل السكون.
في المقابل، نجد أن ديكارت وهو أبو الفلسفة الحديثة قد استخدم السؤال بوصفه وسيلة للوصول إلى اليقين ، الشك المنهجي عنده كان تمريناً في التفكير، يضع كل الحقائق الموروثة تحت مجهر السؤال، ليصل في النهاية إلى قاعدة لا تهتز: أنا أفكر، إذن أنا موجود ، لكن هذه القاعدة نفسها قد تُفسَّر بأنها إجابة استقرت بعد تمرد طويل..!
السؤال بالنسبة لديكارت، ليس هدفاً في ذاته، بل طريق نحو يقين جديد.
لكن نيتشه قلب الطاولة على الجميع حين اعتبر أن الحقيقة ليست سوى وهم نُسج بمرور الزمن، وسلطة قوية استطاعت أن تفرض نفسها على العقول ، السؤال عند نيتشه هو ثورة مستمرة، يقف ضد كل فكرة مطلقة أو إجابة نهائية ، من هنا محاكمة السؤال ليست مجرد مسألة فكرية، بل هي معركة بين نظامٍ يحاول ترسيخ الحقائق ، وفكرٍ يحاول كسر هذه السجون المعرفية بحثاً عن مساحات جديدة للحرية.
تاريخياً ، الأنظمة السياسية والفكرية المغلقة حاربت السؤال بوصفه تمرداً يهدد استقرارها. محاكمات المفكرين والعلماء خلال العصور الوسطى، مثل غاليليو الذي سُجن لأنه تساءل عن مركزية الأرض، كشفت كيف تتحول السلطة إلى عدو للسؤال، وكيف تُوظَّف الحقيقة لتكون أداة قمع. السؤال عن ماهية الكون، عن الزمن، عن الحرية، أو حتى عن شرعية السلطة، يظل خطراً في بيئات ترفض النقد وترى في التساؤل خروجاً عن الطاعة.
لكن هل يُمكن للحقيقة أن تتجمد؟ وهل يمكن للإنسان أن يكف عن التساؤل؟ لو لم يتساءل نيوتن عن سقوط التفاحة، لما اكتشف قانون الجاذبية، ولو لم يتساءل أينشتاين عن الزمن والضوء، لما خرج بنظرية النسبية التي أعادت تعريف الكون. السؤال هو ولادة جديدة للحقيقة؛ إنه الحركة الدائمة التي ترفض الركود.
إن محاكمة السؤال تعني محاكمة العقل الإنساني نفسه. حين تُجرّم الأسئلة، يُجرّم الإبداع وتُغلق أبواب المستقبل. الحقيقة التي لا تتحمل الشك ليست حقيقة، بل سلطة هشة تنتظر السقوط. في عصرنا هذا، حيث تُصنع المعارف بسرعة، نحتاج إلى ثقافة السؤال أكثر من أي وقت مضى. السؤال ليس فعل خيانة؛ إنه مقاومة ضد الجهل، وصرخة تُعيد للحقيقة حياتها، كلما حاولت الأنظمة وأصحاب القوة دفنها في ظلام الأجوبة المُعلبة. ــ الدستور