أ. د. ليث كمال نصراوين : الحق في الصحة أولى بالرعاية
تابع المواطن الأردني بقلق شديد الأزمة التي حصلت مؤخرا بين نقابة الأطباء من جهة والجهات التأمينية ممثلة بالجمعية الأردنية للتأمينات الصحية وشركات التأمين من جهة أخرى حول تطبيق لائحة الأجور الجديدة لعام 2024، التي أصدرها مجلس نقابة الأطباء وتمت الموافقة عليها ونشرها في الجريدة الرسمية وفق أحكام القانون.
وقد أشارت تقارير صحفية إلى أن هذا الخلاف قد نجم عنه امتناع بعض الجهات الطبية عن تقديم العلاج للمرضى المحتاجين وإلزام الفرد بدفع أجور الأطباء نقدا مقابل وصولات خطية يقوم بنفسه بمطالبة شركات التأمين بقيمتها. وقد سارع العقلاء إلى التدخل بين الطرفين المتنازعين ليصار إلى توقيع اتفاق خطي بينهما تم بموجبه تأخير سريان لائحة الأجور الجديدة حتى منتصف العام القادم، وتشكيل لجنة خاصة من أعضاء نقابة الأطباء والجهات التأمينية لوضع التفاصيل الضرورية لتنفيذ نظام الصندوق التعاوني للأطباء لعام 2018.
إن الدروس المستفادة من هذه الأزمة الصحية التي جرى الاتفاق على ترحيلها مؤقتا لأشهر معدودة تتمثل بضرورة الاحتكام للتشريعات الوطنية الناظمة للعلاقات القانونية بين الأفراد والمؤسسات الحكومية والخاصة. فالقوانين الأردنية قد تضمنت نصوصا واضحة وصريحة تحدد الجهات التي يحق لها تحديد لائحة الأجور الطبية وحقوق شركات التأمين والتزاماتها في مواجهة النقابة وصناديقها المختلفة. إلا أن البعض قد اعترض على هذه النصوص القانونية والقرارات الصادرة بمقتضاها واختار بمحض إرادته الامتناع عن تطبيقها والالتزام بها.
إن حق الفرد والجهات الوطنية في الاعتراض على القرارات التي تصدر والتي يرى فيها اجحافا بمركزه المالي أو الاستثماري هو حق ثابت لا ينازعه به أحد، إلا أن الاختلاف في الرأي وفي تفسير النصوص القانونية وتطبيقها يجب ألا يأخذ شكل الامتناع عن تنفيذ القرارات التي تصدر بالإرادة المنفردة، وإنما يمكن لكل ذي مصلحة أن يلجأ إلى القضاء ليصار إلى الطعن بالقرارات التي تصدر والمطالبة بإلغائها.
وقد أحسن المشرع الأردني في هذا السياق عندما كرّس نظام القضاء المستعجل الذي بموجبه يحق لكل فرد أو جهة تدعي بأنه سيلحقها ضرر جسيم من تطبيق أي قرار عليها أن تحصل على قرار مستعجل بوقف تنفيذ ذلك القرار عليها بصفة مؤقتة إلى حين الفصل في النزاع الأصلي.
فعلى صعيد القضاء الإداري الذي تخضع النقابات المهنية لسلطانه باعتبارها من أشخاص القانون العام، فقد أعطى المشرع الأردني المحاكم الإدارية الحق في التصدي للمسائل المستعجلة التي يُخشى عليها من فوات الوقت، حيث تنص المادة (6) من قانون القضاء الإداري رقم (27) لسنة 2014 على أن «تختص المحكمة الإدارية بالنظر في الطلبات المتعلقة بالأمور المستعجلة التي تقدم إليها بشأن الطعون والدعاوى الداخلة في اختصاصها، بما في ذلك وقف تنفيذ القرار المطعون فيه مؤقتا إذا رأت أن نتائج تنفيذه قد يتعذر تداركها».
وقد سبق وأن مارس القضاء الإداري صلاحيته كقضاء مستعجل في العديد من القضايا الوطنية التي شغلت الرأي العام.
كما يستفاد من أزمة لائحة الأجور الجديدة أن الحقوق الدستورية التي يتمتع بها الفرد بصفته الشخصية والمؤسسات الاعتبارية العامة والخاصة ليست جميعها على قدم المساواة. فطالما أن هناك تعدداً في الجهات التي تقدم الخدمات العامة للأفراد والتي تدير مرافق عامة، وأن لكل طرف منها حقوقاً والتزامات، فمن الطبيعي أن يثور نزاع بينها حول نطاق هذه الحقوق وتقديمها من حيث الأهمية.
ولهذه الغاية، فإن الحقوق الدستورية يجب ألا يتم النظر إليها على أساس أنها على درجة واحدة من حيث الأهمية؛ فهي تتفاوت فيما بينها تبعا لطبيعتها ومدى تعلقها بحياة الفرد واشباع حاجياته الأساسية. فما بين حق الفرد في الرعاية الصحية وسلامة بدنه وحق الأطباء وشركات التأمين في الاستفادة المالية من خلال تقاضي الأجور ورسوم التأمين، فإن الحق في الصحة يُقدّم ويكون أولى بالرعاية والاهتمام.
وقد جرى تكريس مبدأ تدرج الحقوق الدستورية من حيث الأهمية في موقف القضاء الإداري الأردني في الكثير من القضايا التي يمكن ان تصلح احكامها لاسقاطها على النزاع الأخير بين الأطباء وشركات التأمين، فحق الفرد في الصحة والعلاج هو الأسمى والأجدر بالحماية.
إن الفترة الزمنية لتأخير نفاذ لائحة الأجور الجديدة ليست طويلة والخلاف بين نقابة الأطباء والجهات التأمينية ليس بسيطا، فهو يتعلق بحقوق مالية يحرص كل فريق على تعظيمها. لذا، فإن الطرفين مدعوان إلى تحمل مسؤوليتهما الوطنية والخروج بتوافقات نهائية بأسرع وقت ممكن تقوم على أساس أن الحق في الصحة أولى بالرعاية من أي مكتساب مالية أخرى.
ــ الراي