الأخبار

اسماعيل الشريف يكتب : الهروب إلى الأمام

اسماعيل الشريف يكتب : الهروب إلى الأمام
أخبارنا :  

«لا تَدَع أزمةً جيدة تذهب سُدى»، تشرشل.

في بداية الثمانينيات، كانت الأرجنتين تحت قبضة نظام عسكري قمعي يعاني من أزمات اقتصادية خانقة، مع ارتفاع معدلات البطالة والتضخم إلى مستويات غير مسبوقة، بالإضافة إلى تصاعد الاحتجاجات الشعبية.

في محاولة يائسة لإنقاذ نظامهم المتداعي، لجأ الحكام العسكريون في الأرجنتين إلى حيلة خطيرة بغرض تشتيت الانتباه وتوحيد الشعب حول قضية وطنية، قرر النظام العسكري شن حربٍ لاستعادة وتحرير جزر فوكلاند التي كانت تحتلها بريطانيا، حقق النظام في البداية مبتغاه ونجح في حشد الدعم الشعبي، لكن رد الفعل البريطاني كان قاسيًا؛ حيث أرسلت قوة بحرية وهزمت الأرجنتين. وفي النهاية، هزيمة الأرجنتين عجلت بسقوط النظام، وكشفت عن هشاشة الأسس التي بُني عليها.

تُعرف هذه الاستراتيجية بسياسة «الهروب إلى الأمام»؛ وهي تكتيك يلجأ إليه القادة عندما يواجهون أزمات داخلية، فبدلاً من معالجة هذه الأزمات، يحاولون صرف الانتباه عنها بإشعال حروب أو افتعال أزمات خارجية بهدف تحويل انتباه الرأي العام عن المشاكل الداخلية وتعزيز الوحدة الوطنية للتصدي للتهديد الخارجي المشترك.

دفع الفشل المتكرر في غزة، وتردي الأوضاع الاقتصادية في الكيان المحتل، بالإضافة إلى تصاعد موجات الضغط الشعبي عن طريق المظاهرات العارمة المناهضة له، وضغوط الجنرالات في الداخل والولايات المتحدة في الخارج، كل ذلك دفع نتن ياهو إلى تنفيذ استراتيجية «الهروب إلى الأمام». ففي محاولة يائسة لإنقاذ نظامه المتهاوي لجأ إلى محاولة إشعال حرب إقليمية في المنطقة معتقدًا أنها الحل الأمثل للتهرب من مشاكله المتراكمة.

ولتحقيق ذلك، قام نتن ياهو في شهر شباط الماضي بقصف السفارة الإيرانية في سوريا، مما أدى إلى مقتل سبعة من قيادات الحرس الثوري الإيراني، وردت إيران بعملية مدروسة ومتفق عليها، هدفها إرسال رسالة واضحة: «نحن قادرون على الرد عليكم». تمكنت الدفاعات من إسقاط الغالبية العظمى من الصواريخ الإيرانية، بينما وصل عدد قليل منها إلى أهداف محددة، وبذلك لم يحقق نتن ياهو هدفه المنشود.

بعد ذلك، نفذ نتن ياهو عملية اغتيال إسماعيل هنية في طهران، وأعقبها باغتيال فؤاد شكر، الرجل الثاني في حزب الله. ومع ذلك، فشل في تحقيق هدفه بإشعال حرب إقليمية. رد حزب الله برد محدود، بينما أمرت الولايات المتحدة الكيان الصهيوني بعدم التصعيد والرد على حزب الله. حتى الآن، لم ترد إيران، وذلك لثلاثة أسباب: أولاً، لأنها تسعى لرد يحظى بموافقة الولايات المتحدة ويضمن عدم نشوب حرب إقليمية؛ ثانيًا، لأنها تتلاعب بأعصاب الصهاينة؛ وثالثًا، لأنها تنتظر ما ستسفر عنه مفاوضات وقف إطلاق النار.

عندما فشلت خطة نتن ياهو في جر المنطقة إلى حرب إقليمية -نظرًا لرفض الولايات المتحدة لهذه الحرب، وعدم قدرته على هزيمة حزب الله أو إيران دون مشاركة أمريكية فعالة- لجأ إلى استفزاز مصر قبل عدة أيام في معرض دفاعه عن رغبته في السيطرة على محور فيلادلفيا؛ حيث اتهم الرئيسين السابقين، مبارك ومرسي، بتسهيل دخول السلاح إلى حماس عبر سيناء. وكاد أن يذكر اسم الرئيس المصري الحالي، لكنه تردد، لأن مجرد ذكر اسمه يعني توجيه اتهام مباشر له، مما قد يؤدي إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. ردًّا على هذه التصريحات، أدانت معظم الدول العربية، وعلى رأسها الأردن، تصريحات نتن ياهو، في إشارة إلى أن مصر لن تكون وحيدة في مواجهة الكيان!

لذلك، نرى نتن ياهو يتمادى في جرائمه في غزة وفي اجتياحه للضفة الغربية، مستغلاً الأوضاع الداخلية المتأزمة، فهو يدرك أن الكيان مُقدِمٌ على حربٍ أهلية وشيكة، وأن الحل يكمن في تصدير أزمته عبر شن حرب إقليمية، ساعيًا إلى إشعال فتيل الصراع في المنطقة، وهو ما فشل فيه حتى الآن. وفي ظل هذا التصعيد الخطير، تراقب إيران وحلفاؤها المشهد عن كثب، وسط مباركة ضمنية من معظم الدول العربية.

لطالما كان الكيان يحمل في أحشائه بذور الاقتتال الداخلي، ولكن الأحداث المتسارعة كالمظاهرات العارمة، والأزمات الاقتصادية المتفاقمة، والفشل العسكري في غزة، وعدم عودة المستوطنين إلى مستوطناتهم في الشمال... هذه التوترات أزاحت الستار عن واقع مرير، فاندلعت الصراعات بين تيارات متعارضة داخل المجتمع الصهيوني، بين المتشددين الذين يسعون لاحتلال غزة وترحيل الفلسطينيين وتحقيق النبوءات التلمودية، وبين العلمانيين الذين يؤمنون بديمقراطية الكيان ويرغبون في تحرير الأسرى لدى حماس، وبرزت هذه الانقسامات بشكل واضح في أعمال العنف التي تعرض لها المتظاهرون السلميون على أيدي أطراف متعددة، من المتطرفين إلى أجهزة الأمن.

يدرك نتن ياهو أن حصر الحرب في غزة والضفة الغربية، مع الضغوطات الكبيرة التي يتعرض لها من المتظاهرين في شوارع فلسطين المحتلة، قد يدفع الكيان نحو حرب أهلية. وأصبح هذا الأمر واضحًا لإيران وحلفائها، الذين يبدو أنهم يسعون لقطع الطريق أمامه لمنعه من إشعال حرب أهلية. أمام نتن ياهو خياران: إما الاستمرار في الإبادة في غزة، مما سيؤدي إلى حرب أهلية، أو السعي إلى وقفٍ لإطلاق النار، مما سينهي مستقبله السياسي وأحلام العصابة التي تحكم الكيان.

فأي الطريقين سيختار؟

ــ الدستور

مواضيع قد تهمك