الأخبار

محمد نعيم فرحان : إسرائيل وموعظة «بيلار»

محمد نعيم فرحان : إسرائيل وموعظة «بيلار»
أخبارنا :  

لا شبيه لدولة إسرائيل في كل شيء عبر كل العصور، وكي تكون كما كانت وتصورتها الحركة الصهيونية وجسدتها بشراكة حلفائها الغربيين، يحتاج الأمر لإعادة ترتيب خمسة آلاف عام خلت من التاريخ على الأقل، وهذا أمر مستحيل بكل حال.

كما لا نظير أيضا للمفهوم الذي تحمله إسرائيل عن نفسها، أو عن رؤيتها للحق وما تصبغه عليه من قداسات دينية ودنيوية خاصة وحصرية بها. أو لموقفها من الآخرين ورؤيتها للتاريخ وتصورها للحرب والسلم.

بالمعايير السياسية، فإن تحّول إسرائيل من فكرة الى مشروع إلى دولة، ذات قوة وشأن وحضور ونفوذ، هو قصة نجاح سياسي فريدة ومدهشة وإن قامت على أساس غير شرعي، وقد مثلت حدثا أساسيا رمى بأثقاله في واقع الإقليم والعالم، وترتب عنه الكثير من الأثمان والتداعيات العميقة مست الكثيرين.

غير أن نجاحها السياسي إلى أجل مسمى، الذي استطاعت خلاله من بناء «دولة ثيوقراطية بدون إله» على حد وصف كاتب فرنسا الكبير «جان جينيه» يحتاج منها - إن كان لديها وقت للـتأمل - الوقوف عند جملة من المفارقات:

أولا: إن المحافظة على ما أنجزته إسرائيل بالسياسية وآلياتها وعقلانيتها وذكائها، يتطلب منها حماية ذلك بأدوات سياسية، تقرأ الواقع والفرص والمخاطر، وتختار الملائم من بين البدائل المختلفة، وهذا ما تفعل عكسه تماما، خصوصا، في العقود الثلاث الأخيرة من عمرها، حيث تستبدل ذلك بخيار مهلك من خلال اللجوء لمفاهيم مستمدة من كهوف أيديولوجية عتيقة وليس من مفاهيم السياسة المناسبة.

ثانيا: على إسرائيل الانتباه لطبيعة المنطقة التي قامت فيها وتعقيداتها وقوانينها، كشرط لتدبر أمر استمرارها فيها لأبعد مدى تاريخي ممكن، وأن تدرس الاستراتيجيات والطرق التي اتبعها، حتى، الأنبياء المؤيدين من السماء لإنفاذ رسالاتهم، والتي قامت على قاعدة الإدراك التاريخي العقلاني للمنطقة وخصائصها وموروثاتها والقوانين السارية فيها، وإسرائيل عودت نفسها ألا ترى كل ذلك أبدا.

ثالثا: على إسرائيل أن تعي بأنها ولدت وتعيش في وكر كامل من الالتباسات، وأن نجاحها التكتيكي المتراكم منذ قيامها وتواصلها كحالة تأثير وفعل مهما طالت، سيظل نجاحا يشكو من غياب ضمان استراتيجي لاستمرارها في البقاء بعد قيامها، لأسباب موضوعية فوق الأسباب الذاتية.

وأن تفهم بأن تحقيق الضمان الاستراتيجي للبقاء أطول زمن ممكن، يتطلب منها قلب معتقداتها الثقافية والأيديولوجية رأسا على عقب، وهذا ما لم تفعله وليست مستعدة لفعله معا، ناهيك عن أن زمن مثل هذا الإجراء قد فات، الأمر الذي يعني وقوفها المتعب وجه لوجه مع الاستحقاقات الصعبة.

رابعا: على إسرائيل أن تدرك عميقا طبيعة حلفائها الغربين من زاويتين على الأقل، الأولى: استعدادهم للتضحية بها ورميها على نحو لا رحمة فيه في مهبات التاريخ عندما تصبح غير قادرة على تحقيق أغراضهم وتفقد وظيفتها عندهم، كما جرى مع غيرها.

والثانية: أن أيديولوجيا التيار المسيحي الصهيوني الأكثر تأييدا لإسرائيل، الذي يؤمن من وجهة نظر خاصة به بعودة السيد المسيح، يرى خراب إسرائيل كشرط ضروري لظهور المسيح، وبالتالي، فهو يقدمها من زاوية معتقداته كقربان لتصوره الإيديولوجي الديني في عين اللحظة التي يدعمها ويؤيدها.

خامسا: لقد تغيرت البيئة الإستراتيجية التي تحيط بإسرائيل، لكن طريقة تفكيرها ظلت قديمة، ولم تتوقف يوما كي ترى نتائج ما فعلت يداها، لقد اعتمدت بلا بصيرة على اعتقاد راسخ بصواب رؤيتها وبأهمية القوة في تأكيد ما تراه لنفسها، ولم تأبه كثيرا لمكائد الزمن الماكر الذي يجيد تصفية الحساب مع من يضلون السبيل في التعامل مع مقتضياته ومتغيراته.

المفارقات الخمسة السابقة لوحدها، تكفي لزعزعة استقرار وعي إمبراطوريات عاتية وراسخة، ورغم أن أوساطا إسرائيلية وصهيونية مهمة تعي ذلك، لكنها غير مستعدة للتخلص نهائيا من الطابع المأساوي في طريقة التفكير من جهة، ولا هي قادرة على وضع حد له كخيار فكري جماعي يحكم دولة إسرائيل نخبا وعامة من جهة أخرى.

السؤال الذي يطرح نفسه على إسرائيل، هل كان بمقدورها أن تتصرف على نحو مختلف عما فعلت، وأن تعيش-آمنة نسبيا-لمدى زمني أطول: نعم كان يمكن ذلك، لكن، ليس بعقيدة التكفير الذهني والفكري والثقافي والايديولوجي التي تتحكم في أعماقها، الذي تفصح عن أحدث صورها كما تفعل غزة.

في روايته «لمن تقرع الأجراس» عن الحرب الأهلية الإسبانية، يقول «ارنست همنغوي» على لسان بطلة الرواية «بيلار»: إن الثور لا يبقر بطن الانسان، الإنسان هو الذي يبقر بطنه، لكن على قرن ثور».

لا العقل ولا السياسة ولا المصلحة العميقة، تستطيع أن تفسر خيارات إسرائيل وممارساتها، وحدها أمراض الإيديولوجيا ورواسبها ومخلفاتها المدمرة، هي التي تستطيع أن تفسر ما تفعله بضحاياها وتاليا بنفسها.

إسرائيل التي بقرت (حقيقة ومجازا) بطون الآخرين وحقوقهم، تبقر بطنها أيضا على قرن التاريخ والحق والصواب والمنطق السّوي الذي ينسجم مع منطق الضرورة السياسية للبقاء، وتقف بعناد لا تحسد عليه، في مواجهة عواقب الظلم الذي مارسته وثقافة الانتقام والضلال الفكري والاستراتيجي والوجودي العميق الذي يسكنها.

موعظة «بيلار» صالحة لقراءة حالات أخرى عند العرب والعجم، غير أنها تصلح لتوصيف وضع إسرائيل الهائجة أكثر من أي حالة أخرى، لأنها تختلف عن العرب والعجم في معطى جوهري هو، افتقادها للمناعة الوجودية التي يتحلون بها والتي تتيح لهم، التعامل مع ألف عام من الأحوال المائلة والسياسات الخاطئة ومع ذلك يبقون، بقوة متانة بنيتهم وجذورها العميقة، في حين لا تملك إسرائيل، لا هذه الخاصية ولا هذا الترف البنيوي المكلف.

*كاتب وأكاديمي من فلسطين، أمين عام الجمعية العربية لعلم الاجتماع. ــ الدستور

مواضيع قد تهمك