الأخبار

محمد رفيع : «حَاضرُ العَرَب.. بينَ السياسةِ والتاريخ»

محمد رفيع : «حَاضرُ العَرَب.. بينَ السياسةِ والتاريخ»
أخبارنا :  

لا يكون التاريخ تاريخاً إلا إذا انقطع تأثيره المباشر على واقع الناس اليومي. فإن لم يفعل، واستمر في تأثيره، فهذا يعني أنه لم يتحول بعد إلى تاريخ منقطع. ما يعني، أيضاً، أنّ هذا «التاريخ» لا يزال «واقعاً»، في حياة الناس، يؤثّر ويتأثر، ويتشكّل ويتكامل أيضاً. وهو ما يوجد في واقع المجتمعات العربية اليوم، على نحو؛ ماضٍ لا يريد أن يمضي، وحاضر يتمنّع في الحضور.

بهذا المعنى، يصبح كل ما حدث، في واقع المجتمع العربي، بكل تشكيلاته، في القرن العشرين، ليس حدثاً ينتمي إلى الماضي، بل إلى حاضر معقّد يتشكّل، ويجدد ذاته، بأشكال مختلفة، على نحو مستمر. فطبيعة البنى الاجتماعية والسياسية، وبالتالي الثقافية، للدول التي تشكلت بعد الحرب الكونية الأولى، في القارة العربية، هي ما تحفظ للأحداث والوقائع ديمومة استمرارها وتأثيرها وتجدّدها، في حياة الناس، وتمنعها من التحوّل إلى تاريخ «بارد»، ينقطع تأثيره على حياة الناس الحاضرة.

ولا أدلّ على ذلك مما فعلته، وما تزال تفعله، الفضائيات العربية، بأعمالها الوثائقية، التي مارَست نَهماً مَحموماً تجاه التاريخ السياسي القريب لتلك المجتمعات، أفراداً وجماعات، وعلى نحوٍ بدا فيه أن لا موضوعات وثائقية غير ذلك التاريخ العتيد، وعلى نحوٍ جعلَ تلك الوثائقيات قادرة على التحوّل إلى ممارسة سياسة وإعلامية فاعلة ومؤثّرة في راهن الأنظمة السياسية العربية ومجتمعاتها.

فإذا صحّ ما سبق، بأنّ «تاريخ» العرب، في القرن العشرين، لم يتحوّل بعد إلى تاريخ، فماذا يكون إذاً؟

كلّ ما هو فاعل ومتحرّك بذاته، أو قابل للتحرك بتأثير غيره، في واقع المجتمعات، هو «سياسة»، ومهما اختلفت وتبدّلت أشكال ظهوره وتجلّيه. أي أنّ التعاطي مع هذا «التاريخ»، تأريخاً أو قراءة أو رؤية، ومهما كان شكل هذا التعاطي، هو ممارسة سياسية. تماماً، كما يشكّل الإهمال، أو النسيان، أو القفز عنه، ممارسة «سياسية» نقيضة وسلبية أيضاً.

في المجتمعات الغربية القريبة، وبفضل البنى الاجتماعية والسياسية، المكوّنة لها، فإنّها تمكّنت من امتلاك آليات للقطع الايجابي مع تاريخها، حتى القريب منه، عبر منع هذا التاريخ من التحول إلى سياسة، تفعل فعلها في حاضر المجتمعات. فما يحدث اللحظة، بمجرد وقوعه في تلك المجتمعات، يتحوّل إلى تاريخ، وينقطع تأثيره السلبي على حياة الناس اليومية. ومن أبرز آليّات القطع الإيجابي مع التاريخ، هو ما أوجدته تلك المجتمعات من قوانين حفظ الوثائق والمعلومات، وأنظمة الحصول عليها. وعلى الرغم من تلك الأنظمة والقوانين، ولارتباط تلك الوثائق والمعلومات، بمصالح وسياسة القوى الغربية، في مجتمعاتنا العربية، فقد أُدخِلت عليها تعديلات تتنافى وطبيعة مجتمعاتها، وتتّفق مع مصالحها. فحُجبت، ولا تزال تُحجب، وثائقُ ومعلوماتُ، تخصُّ أحداث المنطقة العربية، لفترات تقارب القرن، وفي بعض الحالات تزيد عنه. كما حدث في الوثائق البريطانية، الخاصة بمدينة القدس، والتي مُدِّدت فترة حجبها، منذ نحو عقدين، إلى خمسة وسبعين عاماً!

وعلى سبيل المثال، فإنّ الامبراطورية العثمانية، منذ انهيارها بعد الحرب الكونية الأولى، قد تحوّل تاريخها، وتاريخ المجتمعات فيها، ووثائقها إلى تاريخ، باستثناء ما يخصّ مصالح «الدولة التركية»، المستمرة الوجود، كوريثة للامبراطورية المنهارة. تماماً كما هي الحال مع الامبراطورية البريطانية، التي انهارت تدريجيا بعد الحرب الكونية الثانية، فتحوّلت أحداثها إلى تاريخ، باستثناء ما يخصّ دولة بريطانيا، التي استمرّت بعد الحرب، فحُجب من تاريخها ووثائقها ما يمسّ مصالحها المستمرة.

وبهذا المعنى، فإنّ الفترة السابقة على تشكل الدول العربية الحديث، بعد الحرب الأولى، هو التاريخ، وكل ما تلاه هو سياسة. فطبيعة بُنى تلك الدول تمنع الأحداث من التحول إلى تاريخ، وتُبقيها في حقل السياسة، مهما طال عليها الزمن. والسيئُ هنا، معرفياً وثقافياً، هو الخلط الذي يحدث، بقصد أو دونه، في التسميات والمعالجة، بين التاريخ والسياسة، سواء بالتورية أو بالحذلقة أو بالبديع. فهل نملك الجرأة على تسمية الأشياء، في هذا الحقل بأسمائها؛ أهي تاريخٌ.. ام سياسة؟ تمهيدا لمرحلة جديدة من «الجدل»، تميّز بين التاريخ والسياسة.

صحيح أنّ عجلة التاريخ تطحن ببطء، وعلى نحو ناعم ودقيق، غير أنّ السياسة في بلادنا تعيق حركة تلك العجلة، على نحو يبدو كأنّ التاريخَ واقفٌ لا يتزحزح في هذه المنطقة من العالم. ــ الراي

fafieh@yahoo.com

مواضيع قد تهمك