الأخبار

عامر طهبوب : الوفيّ «خان»

عامر طهبوب : الوفيّ «خان»
أخبارنا :  

عامر طهبوب : 

طلب إلي أبي يوماً وأنا في العاشرة من عمري، أن أتوجه إلى بيت عم لي، لأبلغه رسالة شفوية. لم أكن أملك القدرة على رفض طلب أبي، ولا مصارحته بالحقيقة خوفاً من اتهامي بالجبن. الكلب من فصيلة «وولف» الذي يتواجد على مدخل بيت عمي، يُرعبني. وصلت إلى هناك، وفشلت كل خططي في اقتحام المدخل الخارجي دون أن ينتبه إلي ذلك الكلب الشرس. عدت لأبي وقلت له أنني أبلغت الرسالة. كانت دعوة لاجتماع في بيتنا، لم يحضره عمي بسبب شراسة كلبه أو خوفي.

عشت عمري كلّه إلا أقلّه أخشى الكلاب، وبخاصة بعد أن لاحقني ذات يوم كلب شوارع، فهربت منه بسرعة كلب سلوقي، إلا أنه نال مني وأمسكني من أسفل قدمي. تخلصت منه بعد أن هاجمه سكان الحي بعد أن سمعوا صوت صراخ مجلجل. انتهى هذا الخوف في وقت متأخر بعد أن اقتنيت كلباً. صحيح أنه من فئة الكلاب المنزلية الظريفة، إلا أنه يظل من فصيلة الكلاب. ينتظر عودتي. يعرف من خلف الباب وعن بعد، أنني وصلت، يلاحقني في كل مكان، ينام إلى جانبي، وعندما يستيقظ من نومه، لا يزعجني. ينزل عن السرير، ويجلس على سجادة صغيرة، بانتظار أن أصحو، وعندها يسير أمامي إلى حيث يعرف أين أجلس، يشاركني جلسة شرب القهوة. طالما لعبت معه كرة قدم، فقد أصبح مع الوقت لاعباً من لاعبي الصف الأول، يُقدِّر في أي صوب يتحرك، فينطلق في اتجاه الكرة.

يعود الفضل لذلك الكلب في تخليصي من مشاعر الخوف. يقال إن الكلب يحب من يطمئن إليه، ويعرف من يحبه. أصبحت أقترب شيئاً فشيئاً من هذا المخلوق الوفي. تخلصت من الخوف بشكل مطلق، وغدوت أبادر إلى الاقتراب حتى من كلاب الشوارع. أذكر أن حافلة توقفت عند استراحة ونحن على الطريق إلى مدينة «غوري» الجورجية، حيث ولد جوزيف ستالين. اشتريت فنجاناً من القهوة وقارورة ماء صغيرة، وخرجت لأدخن سيجارة. جلست في حديقة صغيرة على مدخل الاستراحة. أحاط بي كلاب شوارع. لم تأت لغيري. أحاطتني ثلاثة كلاب. تركت قهوتي وعبرت ثانية إلى محل البقالة لأشتري لهم أصابع جبن. أطعمتهم بيدي قبل أن أُكمل شرب قهوتي وهم يجلسون إلى جانبي، وعندما هممت بالتحرك نحو الحافلة التي تبعد نحو خمسين متراً، أحاط بي ثلاثتهم وساروا معي إلى أن صعدت درج الحافلة، ولم يتحركوا من مكانهم إلا بعد أن انطلقت الحافلة، وغابت عن مرآى أنظارهم. قالت لي امرأة وهي تراهم حولي لحظة خروجها من محل البقالة: «لا بد أنك رجل طيب، تحيط بك كلاب شوارع».

وفي طقس بروكسل القاسي في فصل الشتاء، توجهت إلى مقهى يدعى «فيا فيا» وسط العاصمة البلجيكية، وفي جلسة خارجية مسقوفة ببناء قديم، وتنتشر فيها المدافئ، وجدت كلباً من كلاب الراعي البلجيكي مستلقياً إلى جانب إحدى الطاولات. تعرفت بسهولة على صاحبته. استأذنتها بإطعامه، فأذنت. انصرفت بعد ساعات، وعدت بعد أيام إلى نفس المكان. تلك مصادفة أن أجد الكلب ينهض لحظة وصولي من بعيد، يقترب مني ويصحبني إلى طاولة مجاورة لصاحبته لا يجلس عليها أحد. استلقى إلى جانب طاولتي، وعندما هممت بالمغادرة، سار معي في الطريق المؤدي للشارع الخارجي. نظرتُ إلى صاحبته، وهي فتاة بلجيكية أكثَرَت من طبع أوشام على ذراعيها. قالت: لا عليك، سيوصلك إلى الخارج. سار إلى جانبي مسافة لا تقل عن مئتي متر حتى عبرت إلى محطة مترو «سانت كاثرين» المجاورة، وبقي واقفاً حتى غبت عن ناظريه.

كلاب تكافح الجريمة، تقود المكفوفين، تواكب الأغنام، تحرس البيوت، كلب ينقذ طفلاً من شر مربيته، وآخر يحتضن طفلاً في البرد القارص، وثالث يسبح تحت طفل غرق في حوض سباحه وينقذه، ورابع ينقذ طفلاً من حريق، يحتضنه ويبعده عن اتجاه النار، فيعيش الطفل ويموت الكلب، وخامس يستلقي تحت تابوت صاحبه رافضاً تركه وحيداً، وسادس «دوبرمان»، اسمه خان، ينقذ طفلة عمرها 17 شهراً من ثعبان، وسابع ينتظر صاحبه عند محطة قطار لمدة خمس سنوات، وثامن لا يعود صاحبه إلى محطة القطار، فيواصل السير يومياً لمدة 14 عاماً، من البيت عند الصباح، إلى المحطة، ويعود إلى البيت في المساء، وهناك تاسعاً وعاشراً وألفًا.

ألا يوجد طريقة لدى العلماء، تنقل جينات الوفاء من الحيوان إلى البشر؟ لم أعد أخشى الكلاب، فهي وفية ومخلصة، مطيعة لصاحبها، ولا تهون عليها العشرة. ما أخشاه، وما اعتدت تجنّبه، هو كلاب من نوع آخر غير «الوولف» و»جيرمان شيبرد»، وريتريفر»، و»الدوبرمان»، إنها كلاب بشرية من ذلك النوع الذي ترى فيه أخاً وفيّاً، وتجد في النهاية أنه خان، خان لأنه ليس كلباً. لا يعرف معنى الوفاء، ولذلك ترى أننا نحرص على الخِل الوفي، لأن الوفاء بات عملة نادرة.

ــ الدستور

مواضيع قد تهمك