الأخبار

د. هبة ابو عيادة : العائلة أولًا وأخيرًا

د. هبة ابو عيادة : العائلة أولًا وأخيرًا
أخبارنا :  

العائلة ليست مجرد مجموعة من الأفراد يجمعهم اسم واحد أو دم واحد، ولا هي فكرة مجرّدة، ولا كلمة تُقال في المناسبات، بل هي العالم الأول الذي يحتضننا منذ ولادتنا والجذر الأول الذي يمتد عميقًا في الروح قبل أن نعرف معنى الجذور، وهي الحضن الذي سبق اللغة، ففهمنا فيه الأمان قبل أن نتعلّم النطق. العائلة أولًا وأخيرًا، لأنها البداية التي لا تُستبدل، ولأن كل الطرق مهما ابتعدت تعود إليها. فيها نتكوّن دون وعي، ونكبر دون إذن، ونقع وننهض ونحن نعرف يقينًا أن هناك من ينتظرنا دون شروط.

العائلة هي أول محتضن حقيقي للإنسان، حضن لا يُقاس باتساع الذراعين بل بعمق الطمأنينة. في هذا الحضن تعلّم القلب أن يخفق بثقة، وتعلّمت الروح أن لا تخاف. قبل المدرسة، وقبل المجتمع، وقبل أن نعرف أسماء الأشياء، كانت العائلة هي المعنى. هي التي جعلت للعالم شكلًا يمكن احتماله، وللحياة نغمة يمكن السير عليها. من هذا الحضن خرج الإنسان إلى الدنيا وهو يحمل داخله خريطة أمان، إن ضاعت عاد إليها.

وفي العائلة كان أول مشجّع لنا، فلم نكن أبطالًا حين حاولنا الوقوف، ولم نكن موهوبين حين نطقنا أول حرف، لكن التصفيق كان حاضرًا، والفرح كان صادقًا، وكأن إنجازنا الصغير فتح باب الأمل الكبير. العائلة لا تنتظر الكمال لتشجّع، بل تشجّع لتصنع الكمال الممكن. كانت تبتسم لأخطائنا، وتحوّل تعثّرنا إلى محاولة، وتعلّمنا أن الفشل ليس نهاية بل تدريب إضافي على النجاح.

العائلة هي أول معلم للغة، لا بحروفها فقط بل بمعانيها. منها تعلّمنا كيف نقول (أحبك) دون لفظ، وكيف نفهم الغضب دون صراخ، وكيف نقرأ الحزن في الصمت وكيف نثق بأن كل سقوط سنجد يدا تمتد لتنقذنا قبل أن نسقط، وكيف نطمئن بأنهم سند دون أن نراهم. فالعائلة هي المدرسة الأولى التي لا تُغلق أبوابها، والمناهج التي تُكتب بالمواقف لا بالكتب. في البيت تعلّمنا أول حروفنا، لكن الأهم أننا تعلّمنا أول قيمنا: الصدق، الاحترام، الرحمة، الصبر. هذه القيم هي التي شكّلت خطّنا الداخلي الذي نكتب به حياتنا لاحقًا. وعند الخطوة الأولى، كانت العائلة هي العون. يد تمسك بنا ونحن نترنّح، ونظرة تشجّعنا على التقدّم، وصوت يقول: لا تخف. الخطوة الأولى ليست مجرد حركة جسدية، بل إعلان شجاعة. والعائلة هي التي منحتنا هذه الشجاعة. لولا هذا الدعم المبكّر، لكان الخوف أقوى، ولتأخر السير طويلًا. كل خطوة لاحقة في الحياة تحمل أثر تلك الخطوة الأولى، وكل ثقة نملكها اليوم هي امتداد ليد أمسكت بنا ذات يوم. وحين نسقط، تكون العائلة هي السند. السقوط جزء من الطريق، لكن النهوض يحتاج إلى من يؤمن بنا ونحن في أدنى حالاتنا. العائلة لا تسأل: لماذا سقطت؟ بل تقول: تعال، سننهض معًا. هي التي ترى فينا ما لا نراه في أنفسنا، وتذكّرنا بقيمتنا حين ننساها، وتعيد ترتيب فوضانا الداخلية بصبر. في لحظات الانكسار، لا نحتاج إلى محاضرات، بل إلى وجود، والعائلة تعرف ذلك بالفطرة.

والعائلة هي المحفّز لخطّ أحرفنا الأولى، ليس على الورق فقط، بل في الحياة. فهي التي دفعتنا لنحلم، وشجّعتنا على المحاولة، واحتملت تردّدنا وقلقنا. حين كتبنا أول حرف، لم يكن جميلًا ولا متقنًا، لكنهم رأوا فيه بداية قصة. وهكذا تعاملت العائلة معنا دائمًا: ترى فينا البدايات لا النهايات، والإمكانات لا العثرات. لذلك كبرنا ونحن نجرؤ على الكتابة، على التعبير، على أن نكون.

العائلة ليست مثالية، ولا تخلو من الاختلاف والألم، لكنها تبقى الإطار الأصدق للحب. قد نختلف داخلها، وقد نغضب، لكننا لا نتخلّى ولا نبتعد ولا نقسو ولا نقطع رحمًا. فيها نتعلّم كيف نتصالح، وكيف نعتذر، وكيف نغفر وكيف تعود أواصر المحبة والإخوة أقوى وأمتن. هذه الدروس لا تُدرّس في مكان آخر بهذا العمق، لأن العائلة تعلّمنا أن العلاقات مسؤولية، وأن الحب فعل مستمر لا شعور عابر وأن عائلتنا تجري مجرى الدم لا يمكن أبدًا أن نعيش بمعزل أو بعد أو جفاء عنها وأستذكر هنا عزيزي القارئ مقولة (أهلك أهلك حتى في مهلك).

وفي عالم قاسٍ أحيانًا، متغير دومًا، تبقى العائلة الملاذ الأول والأخير والعش الذي يذيب عن قلوبنا الهموم ويمسح عن أعيننا الدموع ويزيل عنا الحزن.

قارئنا الكريم حين يخذلنا الخارج، نعود إلى الداخل. وحين تتعب أرواحنا من الضجيج، نبحث عن صوت يعرف أسماءنا دون ألقاب. فنهرول مسرعين إلى عائلتنا؛ الذاكرة الحيّة التي تذكّرنا بمن كنّا، لنفهم من نحن، وإلى أين نريد أن نذهب بخطوات ثابتة ودعوات صادقة تقرع أبواب السماء وبمحبة لا يوازيها رقم. ونذكر كل راعٍ أن يتقي الله في رعيته وأسرته وأن يغرس فيهم الحب والأخوة وصلة الرحم، فبروا تُبروا، والابن على خطى أبيه، فالمكلوم من عائلته لا يشفى أبدًا، وكما قال خير البشرية كفى بالمرءِ إثمًا أن يُضَيِّعَ من يُعيل.

لهذا نقولها بوعي وتجربة: العائلة أولًا وأخيرًا. ليست لأنها خالية من العيوب، بل لأنها المكان الوحيد الذي يقبلنا ونحن في طور التكوين، وفي طور الخطأ، وفي طور النضج وفي كل الأطوار بحلوها ومرها وهينها وصعبها. فهي البداية التي من دونها لا يكتمل الطريق، وهي النهاية التي نطمئن عندها مهما طال السفر.

العائلة هي أول حضن، وأول تشجيع، وأول حرف، وأول خطوة، وأصدق سند، وستبقى، المعنى الذي لا يُستبدل، حفظ الله عائلاتنا قوية متينة متماسكة مترابطة يملؤها الحب والطمأنينة، بعيدة كل البعد عن الكراهية والقطيعة والضغينة. وأختم مقالي بنصيحة محب: احتضنوا عائلاتكم واغمروهم بالحب قبل فوات الأوان، كونوا الملاذ الأول والعش الذي يعود الكل إليه رغبة ومحبة، احفظوا ملامح وأصوات كل عضد وأم وأب، التقطوا الكثير من الصور التي تبث من سعادة لا تقدر بثمن.

مواضيع قد تهمك