الأخبار

د. سلطان المعاني : خرائط الآخر وجغرافيتنا

د. سلطان المعاني : خرائط الآخر وجغرافيتنا
أخبارنا :  

تبدو الخريطة في النظر الأول أداة بريئة: خطوط، ألوان، أسماء أماكن، شبكة طرق وأنهار وحدود. غير أنّ تاريخ الخرائط الاستشراقية عن المشرق العربي يبيّن أنّ الأمر أعمق من مجرّد وصفٍ هندسي للمكان. هذه الخرائط – من خرائط صندوق استكشاف فلسطين، مرورًا بأعمال موزيل، وصولًا إلى الأطالس الأوروبية والأمريكية – لم تُنتج جغرافيا على الورق فقط، وإنما أسهمت في صناعة وعيٍ كامل بالشرق: أين يبدأ، أين ينتهي، ما الذي يُعتبر «مُسمّى» وما الذي يظلّ مجهولًا أو صامتًا.
حين نعيد النظر في هذه الخرائط من زاوية الوعي، تظهر أسئلة مزعجة: من يملك حقّ تسمية المكان؟ من يقرّر أن هذا الجبل يستحق اسمًا، وأن تلك البقعة يمكن أن تبقى بلا علامة؟ ما الذي يجعل قرية صغيرة في السهول ظاهرة على الورق، في حين تختفي مضارب وقبائل ومسارات رعي عبرت المنطقة قرونًا؟ هنا يتحوّل فعل التسمية إلى ممارسة سلطة، ويتحوّل الصمت عن التسمية إلى شكل من أشكال الإلغاء الرمزي.
توزيع الأسماء والكثافات على الخرائط الاستشراقية يكشف منطقًا واضحًا: تركيزٌ على الحواضر التي تهمّ البعثات التبشيرية أو العلمية، وعلى العقد المرتبطة بخطوط الملاحة والتجارة، في مقابل فراغات واسعة تعاملها الخرائط كمساحات «غير مأهولة» أو «قليلة الأهمية». يظهر هذا المنطق في تمثيل مناطق صحراوية في أكثر من بلد عربي؛ حيث تتحول فضاءات عيشٍ كاملة إلى مجرد لون واحد وامتداد خالٍ من التفاصيل، رغم أنها في الواقع شبكات كثيفة من الحركة والعلاقات والطرقات غير المعبّدة.
يتقدّم سؤال الأسماء خطوة أخرى حين نلاحظ استبدال الأسماء العربية الراسخة بصيغ توراتية أو لاتينية أو يونانية. خريطة صندوق استكشاف فلسطين مثلًا لا تكتفي بتسجيل أسماء المواضع كما ينطقها أهلها، وإنما تستحضر مخزون النص الكتابي، فتستعيد أسماء قديمة وتُسقطها على تضاريس معاصرة. القارئ الأوروبي يرى أمامه أرضًا تابعة لخياله الديني والتاريخي؛ أرضًا معروفة مسبقًا من خلال العهد القديم وكتب الرحلة، أكثر مما يراها موطنًا لمجتمعات عربية معاصرة. هكذا ينحاز الوعي، من غير تصريح، إلى سرديةٍ واحدة عن المكان، ويُدفَع الحاضر إلى خلفية المشهد.
الخرائط التي اشتغل عليها موزيل وأضرابه تضيف طبقة أخرى: قدر كبير من الدقة الإثنوغرافية، تدوين للأسماء والأنساب والطرق والعادات، غير أن هذا الجهد المعرفي يتحرك داخل منطق القوة نفسه. فالمطلوب رسم فضاء يمكن قراءته استراتيجيًا؛ فضاءٍ تُفهَم من خلاله أنماط الحركة والتحالف، ومواقع الموارد، وأشكال السلطة المحلية. المعرفة هنا ليست محايدة؛ هي جزء من إعداد الأرض لإمكانية التدخل فيها: دينيًا، أو علميًا، أو عسكريًا، أو إداريًا.
بهذا المعنى، الخرائط الاستشراقية لا تُخطِّط الواجهات الجغرافية فقط، وإنما تُخطِّط طبقات أعمق في وعينا. فهي تُرسّخ، مع مرور الزمن، تصورًا معيّنًا عن مركز وهامش، عن مناطق متحضّرة وأخرى «غير متحضرة!»، عن ساحلٍ مكتمل التعريف وداخلٍ لا يزال في طور الاكتشاف. هذا التصور لا يبقى حبيس المخبر الأوروبي؛ ينتقل لاحقًا إلى الأطالس المدرسية في المنطقة، وإلى المناهج الجامعية، وإلى الأدبيات السياحية والإعلامية. هكذا يستيقظ جيلٌ من أبناء المنطقة على خرائط أُنتجت أصلًا بعينٍ خارجية، ويعتبرها وصفًا طبيعيًا لبلاده.
التفكير في هذه المسألة اليوم لا يعني تحويل أي بلد عربي إلى «ضحية نموذجية» لهذه الخرائط، ولكنه يعني إدراك أنّ كثيرًا من أوطاننا ورثت تمثّلات مكانية صاغها الآخر، ثم استبطنتها بلا تفكيك كافٍ. من المغرب إلى وادي النيل، ومن بلاد الشام إلى العراق والجزيرة، تتكرر الأسئلة نفسها: أيّ أسماء تمّ تثبيتها في الأطالس الرسمية؟ أيّ طرق اعتُبرت «رسمية» وأيّ مسارات ظلّت خارج الحقل البصري للخرائط الحديثة؟ ما نصيب التجربة المحلية في الريف والبادية والمدينة – في صناعة المعجم الجغرافي الذي ندرّسه لأبنائنا؟
هنا تبرز الحاجة إلى انتقالٍ من جغرافيا الورق إلى جغرافيا الوعي. الأولَى تُعرّف المكان من الخارج، عبر رموز جاهزة ولغة تقنية؛ والثانية تنطلق من تجربة سكّانه، من أسماء الوديان كما يحفظها الرعاة، من ذاكرة الطرق القديمة في أذهان السائقين والفلّاحين، من علاقة الناس اليومية بالأرض. إعادة قراءة الخرائط الاستشراقية جزء من هذا الانتقال: ليست دعوة إلى إحراق الأرشيف، وإنما إلى قراءته قراءةً تاريخية، تعي شروط إنتاجه وحدود صدقيته وأهداف الجهات التي موّلته ووجّهته.
الخطوة الفكرية الحاسمة أن ندرك أنّ الخريطة ليست مجرد أداة تقنية، وإنما نصّ ثقافي. النصوص تُفسَّر وتُراجَع، وتُقارن بنصوص أخرى، وتُوضَع في سياقاتها التاريخية والمعرفية. كذلك الخرائط: يمكن أن تُقرأ في ضوء يوميات الرحالة، وفي ضوء تقارير الإدارات الاستعمارية، وفي ضوء شهادات أهل المكان. عند هذه النقطة، يتحرر وعينا من سطوة الخريطة الواحدة، وينفتح على تعدّد الصور التي يمكن أن تُرسَم للأرض نفسها.
ليست الغاية في النهاية أن نستبدل خرائط الآخر بمجرد خرائط وطنية تحمل الأعلام ذاتها وتعيد إنتاج الإقصاءات نفسها بأسماء مختلفة. الغاية أعمق: بناء حسّ نقدي يجعل أي خريطة موضع سؤال، ويُذكّرنا دائمًا بأن ما نراه على الورق اختيارٌ من بين اختيارات عديدة ممكنة. كل بلد عربي يستطيع أن يمارس هذا التفكيك من موقعه الخاص، وأن يبني جغرافيته الذهنية من جديد، اعتمادًا على ذاكرته ولغته وتجربته التاريخية. عندئذ فقط تتحول الخريطة من مرآةٍ لعين الآخر إلى أفقٍ يتكلم بلسان أهل المكان.
.... المناسبة فيما يُحاك لمنطقتنا اليوم في الخفاء والعلن.

مواضيع قد تهمك