د. محمد الحدب : المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتحدي الانتقال إلى النمو
تُجمع الأدبيات الاقتصادية الحديثة على أن المشاريع الصغيرة والمتوسطة تمثل العمود الفقري لأي اقتصاد يسعى إلى نمو مستدام وشامل، ليس فقط لكونها الأكثر عددًا، بل لقدرتها على توليد فرص العمل، وتحفيز الابتكار، وتوسيع القاعدة الإنتاجية. وفي الحالة الأردنية، لا يختلف اثنان على أن هذا القطاع يشكّل ركيزة أساسية في رؤية التحديث الاقتصادي، غير أن التحدي الحقيقي لم يعد في دعم التأسيس، بل في ضمان استمرارية النمو والانتقال السلس من مشروع صغير إلى مشروع متوسط منتج ومُصدِّر.
تشير بيانات البنك المركزي الأردني إلى أن المشاريع الصغيرة والمتوسطة تستحوذ على نحو 10-11% فقط من إجمالي التسهيلات الائتمانية الممنوحة للقطاع الخاص خلال السنوات الأخيرة، وهي نسبة بقيت ضمن نطاق محدود منذ عام 2017، ما يعكس أن التحسن في التمويل كان نسبيًا، دون اختراق حقيقي في الوزن الهيكلي لهذا القطاع داخل الائتمان المصرفي، رغم المبادرات والبرامج الداعمة.
غير أن القراءة الأعمق لهذه البيانات تكشف خللًا أكثر دقة. فخلال الفترة 2017-2024، اتسم نمو التسهيلات الائتمانية الممنوحة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة بعدم الاستقرار، مع تباين واضح بين فئتي المشاريع الميكروية والصغيرة من جهة، والمشاريع المتوسطة من جهة أخرى. ففي عام 2024تحديدًا، سجّل تمويل المشاريع الميكروية والصغيرة نموًا سنويًا لافتًا تجاوز 50%، مقابل تراجع ملموس قارَب 15%في تمويل المشاريع المتوسطة، وفق بيانات البنك المركزي الأردني.
هذا التباعد لا يمكن تفسيره على أنه مجرد تقلب دوري أو شح في السيولة، بل يعكس خللًا هيكليًا في مسار تمويل النمو. فالسياسات التمويلية تنجح في دعم مرحلة الانطلاق، لكنها لا توفّر الأدوات الكافية لمرافقة المشاريع الناجحة عند انتقالها إلى مرحلة التوسع، وهي المرحلة الأكثر حساسية والأعلى أثرًا على التشغيل والإنتاج والصادرات.
ويُضاف إلى ذلك بُعد اجتماعي مهم، يتمثل في طبيعة عدد كبير من المشاريع الميكروية نفسها، إذ تُنشأ في كثير من الأحيان كآلية صمود لتأمين دخل سريع في مواجهة التزامات حياتية طارئة، كالعلاج أو التعليم أو المناسبات العائلية. وفي هذه الحالات، يغيب الفصل بين مال المشروع ومال الأسرة، ما يجعل المشروع أكثر هشاشة وعرضة للتسييل عند أول صدمة. وتشير تجارب دولية، خصوصًا في الهند وجنوب شرق آسيا، إلى أن بقاء المشروع عند حجم ميكروي لفترات طويلة يرفع من مستوى المخاطر بدل أن يخفضها.
المشكلة، إذن، ليست في غياب التمويل، بل في غياب حلقة الربط بين التمويل الصغير والتمويل المتوسط، وبين البعد الاجتماعي والبعد الإنتاجي. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى إعادة توجيه السياسات الداعمة من التركيز على الكم إلى التركيز على مسار النمو، عبر أدوات تمويل مرحلية، وبرامج ضمان ذكية، وحوافز مرتبطة بالتوسع والتشغيل.
إن دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة خيار اقتصادي استراتيجي، فاقتصاد لا يُنتج مشاريع متوسطة قوية سيبقى أسير مشاريع صغيرة محدودة الأثر.
وفي هذا السياق، فإن المرحلة المقبلة تتطلب الانتقال من سؤال: كم مشروعًا موّلنا؟ إلى سؤال أكثر عمقًا وتأثيرًا: كم مشروعًا نمَا وتوسّع وخلق قيمة مضافة حقيقية؟ هنا فقط، نكون قد وضعنا المشاريع الصغيرة والمتوسطة في موقعها الصحيح ضمن معادلة النمو الوطني. ــ الراي