د. خالد الشقران يكتب : الاستقلال.. إرادة يتوجها الإنجاز

تحل اليوم الذكرى المجيدة لاستقلال الأردن، لترسم بألوان الفخر ملحمة وطن رفض الانكسار، وحفر بالتضحيات طريقا نحو الحرية.. إنه اليوم الذي تحول فيه الأردن من أرض تحت الانتداب إلى دولة ذات سيادة، تحمل راية الاستقلال عاليا، وتنحت بمطرقة الإصرار مستقبلاً يليق بأبناء البلد الواحد، فالاستقلال ليس مجرد ذكرى تحكى، بل هو روح تسري في شرايين الأمة، ودليل على أن الإرادة تصنع المستحيل.
الاستقلال معنى يتجاوز التاريخ ليروي قصة مجد سطرها أبطال آمنوا بالله وبالوطن، فعندما أعلن المغفور له الملك عبدالله الأول استقلال المملكة عام ١٩٤٦، لم يكن يعلن تحررا من مستعمر فحسب، بل كان يؤسس لعقد اجتماعي قائم على الحرية والمسؤولية، فالاستقلال هو انتصار للإرادة الوطنية على التبعية، وتأكيد على حق الأردنيين في تقرير مصيرهم وبناء مؤسساتهم التي تجسد هوية الأردن العربية والإسلامية.. والاستقلال كذلك رمز للكرامة الإنسانية التي رفضت الخنوع، وشعلة تضيء على الدوام درب الأجيال نحو المستقبل.
لقد استند الملك المؤسس عبدالله الأول بن الحسين وهو يرفع راية الاستقلال في عمان، إلى شرعيتين: تاريخية يجذرها نسبه الذي يمتد إلى بيت النبوة، وسياسية صنعتها بطولات الثوار من أبناء القبائل العربية التي حاربت تحت قيادة والده الشريف الحسين بن علي، ولهذا كان الاستقلال تتويجا لعهد هاشمي بدأ بمحاولة إحياء «الخلافة العربية» من الحجاز، ثم تحوّل إلى تأسيس كيان سياسي في شرق الأردن، حافظ على الإسلام هوية، وعلى العروبة رسالة، وعلى الإنسان قيمة.
سياسيا، أعطى الاستقلال للأردن صوتا في المحافل الدولية، فكانت قراراته تعكس مصالح شعبه، ولا ترضخ لإملاءات الخارج.
ومنذ عهد المغفور له الملك المؤسس عبد الله الأول بن الحسين، شكل الأردن نموذجاً للدبلوماسية المتوازنة والحكيمة التي تجمع بين الثوابت الوطنية والانفتاح على العالم، فالأردن - بقيادة الهاشميين - حافظ على مواقف متزنة جعلته جسراً للتواصل بين الشرق والغرب، وساهم بدور محوري في تعزيز الأمن الإقليمي والدولي، وفي عهد المغفور له الملك الحسين بن طلال، طبعت هذه السياسة ببصمة استثنائية عبر الحفاظ على الحياد الإيجابي في خضم تحديات الحرب الباردة والنزاعات العربية، مع التأكيد على الحقوق الفلسطينية ودعم قضايا الأمة، مما أكسب ?لأردن مكانة مرموقة كصوت عقلاني ووسيط موثوق. وفي العهد الزاهر لجلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين، تواصلت هذه الإستراتيجية بدعم قضايا الامة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، إضافة إلى تعزيز الشراكات الدولية في مجالات مكافحة الإرهاب وبناء السلام، والريادة في الحوار بين الأديان، والنهوض بدور المملكة كقاعدة للاستقرار في منطقة مضطربة، مدعوماً بعلاقات متينة مع الدول الكبرى والمنظمات الدولية، وبمتابعة ولي العهد الأمير الحسين بن عبد الله الثاني، الذي يضفي ديناميكية جديدة لتعزيز إرث الأردن الدبلوماسي الممتد بعمق ?لتاريخ وبرؤية مستقبلية واعدة.
اقتصاديا، استطاعت المملكة تحويل التحديات إلى فرص؛ فمن دولة تعتمد على المساعدات إلى نموذجٍ في الابتكار الزراعي والتكنولوجي.
اما اجتماعيا، فقد حافظ الأردن على نسيجه الوطني، وكان الملاذ الآمن لكثير من الشعوب التي عانت من ويلات الحروب والصراعات؛ فاستقبل العديد من موجات اللجوء، وكان مثالا للتضامن العربي.
في الجانب الثقافي، صانت المملكة تراثها كحصن للعروبة، وبالوقت نفسه شكلت أنموذجا يحتذى في الانفتاح على الحداثة مع المحافظة على القيم الأصيلة.
لم يكن طريق الاستقلال مفروشا بالورود، فقد واجه الأردن تحديات جساما من حروب إقليمية إلى أزمات لاجئين، وصولاً إلى شح الموارد، لكن الأردن، بسواعد أبنائه، حوّل التحديات إلى منصات للعطاء، فالاستقلال لم يكن حدثاً عابراً، بل كان عهدا دائما بالتجدد والتزاما من القيادة والشعب مسنودا بالجيش العربي الذي شكل درع الوطن، فيما كان الشباب محركا للتقدم.
اليوم، والأردن يحيي ذكرى استقلاله التاسعة والسبعين، يتجدد السؤال: كيف نحافظ على مكاسب الاستقلال؟ الجواب يكمن في الاستمرار في تنفيذ مسيرة التحديث الشاملة، وتعزيز التنمية المستدامة، وتمكين الشباب، والمضي قدما في مسيرة العدالة الاجتماعية، وخلق اقتصاد قوي، وتوفير تعليم نوعي، وكل ذلك سيقود بالتأكيد إلى تعزيز الاستقلال السياسي باستقلال تنموي، يجعل الأردن منصة للإبداع في المنطقة.
إن عيد الاستقلال لم يكن يوما في وجدان الأردنيين احتفالاً بالماضي، بل إعادة إحياء لقيم التضحية والعمل، وتذكير بأن حرية الأردن لم تُنَل بالمجان، بل كانت ثمرةَ كفاح متواصل، زرع كل أردني في تربته بذور الأمل، فأصبح الاستقلال شعارا لكل يوم لا ذكرى سنوية، فليكن المستقبل امتدادا لمجد الماضي، وليكن شعارنا: «الاستقلال أمانة، والبناء مسؤولية».
تاريخيا لم يكن الهاشميون يوما مجرد حكام، بل ظلوا حاملي أمانة ورسالة تاريخية انعكست بوضوح في جعل الأردن نموذجا لدولة العرب الحديثة، التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة.
فكل عام وقيادتنا وشعبنا بألف خير والأردن حر عزيز أبي شامخ، رايته خفاقة كأنها قطعة من سماء الوطن.
ــ الراي