د. أيوب ابو دية : مقترحات لترشيد استهلاك المياه في الأردن

على هامش مؤتمر الميثاق الاقتصادي الأول نقول: بات الأردن يواجه واحدة من أخطر أزماته البيئية في هذا العام، إذ تلوح في الأفق أزمة مائية خانقة تنذر بصيف قاسٍ، وتفرض واقعًا صعبًا على المجتمع بأسره. فلم تعد قضية المياه مجرد خلل في الخدمات، بل تحولت إلى تهديد مباشر لأبسط مقومات الحياة، مما يستدعي تحركًا عاجلًا وحاسمًا، بعيدًا عن التسويف والمماطلة والوعود التي تنتهي بانتهاء خدمة المسؤول.
إن ما يعيشه الأردن اليوم ليس وليد اللحظة، بل نتيجة تراكمات لسنوات طويلة من الإهمال والتأجيل، رغم أن مشكلة المياه كانت في صدارة الأولويات، ولكن للأسف تُرك الملف يُدار بحلول مؤقتة وترقيعية، فيما كانت الحاجة الحقيقية تقتضي استراتيجيات عميقة طويلة الأمد كي تتعامل مع المياه كقضية وجود لا كمجرد خدمة. فمثلا ضخ مياه الديسي إلى عمان مشروع مهم ولكن كميته غير قابلة للزيادة بسهولة، وهي لن تغطي التعاظم في الحاجة الى المياه بمرور السنوات.
والناقل الوطني، رغم أهميته أيضا، لا يمثل حلاً جذريًا كذلك، بل يقدّم متنفسًا مؤقتًا يُرحل الأزمة إلى الأمام دون معالجتها من جذورها. في المقابل، المؤشرات البيئية تشير إلى تدهور متسارع في المخزون الجوفي وتراجع ملحوظ في معدلات التغذية الطبيعية للمياه، بفعل التغير المناخي وزيادة عدد السكان وقضية اللاجئين والتوسع العمراني والزراعي العشوائي.
في النهاية، فإن المواطن البسيط هو المتضرر الأول. فانقطاعات المياه تتكرر، والخدمة تتراجع، والتوزيع غير عادل، مما يزيد من الشعور بالإجحاف ويعاظم من الضغوط المعيشية على الأسر الفقيرة. فلم يعد مقبولًا الاستمرار بهذا النهج، فالحاجة إلى قرارات صارمة باتت أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
من بين الإجراءات العاجلة التي يجب الشروع بها، يأتي تطبيق نظام تسعير تصاعدي لشرائح استهلاك المياه بحيث يشجع على الاقتصاد في الاستخدام، مع تحميل المستهلكين المفرطين في الاستهلاك الكلفة الحقيقية لما يستخدمونه. كما يجب فرض غرامات صارمة على هدر المياه، سواء في المنازل أو المزارع أو المنشآت، من خلال أجهزة رقابية فعالة تملك الصلاحيات القانونية اللازمة لضبط المخالفين.
من جهة أخرى، لا يمكن التغاضي عن نسبة الفاقد في الشبكات، والتي تتجاوز 40% في بعض المناطق، نتيجة قدم البنية التحتية وغياب الصيانة المنتظمة. معالجة هذه المشكلة تتطلب إعادة تأهيل شاملة للشبكات وتطوير نظام رقابة دقيق يضمن تقليل الهدر إلى الحد الأدنى. ولا أعلم إذا كان التصريح بخطة خفض هذه النسبة بمقدار 2% سنويا يتناسب مع خطورة الأزمة!
الزراعة أيضًا بحاجة إلى مراجعة جذرية. فمن غير المنطقي الاستمرار في زراعة محاصيل تحتاج كميات كبيرة من المياه، وخاصة في بلد يصنف ضمن أكثر الدول فقرًا مائيًا حيث حصة الفرد تراجعت إلى 60 مترا مكعبا سنويا، في حين من المفترض أن يكون على الأقل 730 مترا مكعبا لأغراض الشرب والاغتسال والطبخ. فلا بد من التحول إلى زراعات تتكيف مع ندرة المياه وتتبنى تقنيات ري حديثة وفعالة.
ويمكن أيضا التوجه نحو دعم زراعة المحاصيل المقاومة للملوحة، كالكرسنة والشعير، في المناطق التي تتوفر فيها مياه مالحة. ومنع تصدير البندورة والخيار وغيرهما من الخضار والفواكة التي تحتاج إلى كميات هائلة من المياه تتجاوز 90-95% من وزنها.
كذلك، وتشجيع استخدام المياه الرمادية، وتعظيم إعادة استخدام المياه المعالجة في الري والصناعة، وتوسيع شبكة المجاري العامة لاستقبال ومعالجة كميات أكبر من المياه السوداء.
لا بد كذلك من توسيع مشاريع الحصاد المائي لتجميع المياه وتغذية المياه الجوفية، وانجاز خطة 400 مليون متر مكعب مع نهاية هذا العام، ووضع خطة أكبر طموحا للسنوات الخمس القادمة، فالانحباس الحراري يتعاظم وطموحات الأمم المتحدة بوقف التعاظم الحراري عند درجة ونصف لم يفلح، وعلى الأرجح ألا يتحقق الطموح بالتوقف عند 2 درجة مئوية عام 2030.
ولا بد أيضا من تغطية السدود القائمة بوسائل تحد من عميلة التبخر، كالكرات البلاستيكية أو الألواح الشمسية العائمة لتوليد الطاقة، فهذه خيارات عملية أثبتت جدواها الاقتصادية، ويمكن أن توفر ملايين الأمتار المكعبة سنويًا.
وعلى صعيد السياسات، يجب أن يتحول ملف المياه إلى أولوية في العلاقات الإقليمية والدولية، من خلال تعزيز التعاون مع دول الجوار بشأن الموارد المشتركة، واستقطاب استثمارات أجنبية لمشاريع تحلية المياه باستخدام الطاقة الشمسية، التي أصبحت من أقل مصادر الطاقة تكلفة على الاطلاق. وهناك أمثلة نجاح ينبغي التعلم منها في السعودية وفلسطين.
كذلك ينبغي اتخاذ تدابير حازمة مثل وقف زراعة النجيل ومنع ري الحدائق بالمياه العذبة، والحد من استخدام المياه في غسل السيارات والمسابح الخاصة، كما فعلت دول أخرى خلال أزماتها المائية. حتى بريطانيا لجأت إلى هذا الحظر خلال سنوات الجفاف، وتحديدا في أزمة مياه عام 1976 وما بعدها. وهذه الإجراءات يجب أن تترافق مع حملات توعية شاملة لتغيير سلوك الأفراد والمجتمع.
ولابد أيضًا من التوسع في البحث عن مصادر جديدة، مثل مصادر المياه العميقة، وتطوير تقنيات لفصل الطبقات المائية السطحية والوسطى عن الطبقات العميقة لمنع تلوثها أو تسرب الماء العلوي إليها.
وفيما يخص البنية العمرانية، يجب فرض مواصفات جديدة على الأبنية المقترحة لضمان توفير المياه، مثل تقليل حجم خزانات المراحيض، واعتماد صنابير مرشدة وأجهزة استشعار للحركة. كما ينبغي إعداد خطط لتطوير كفاءة استهلاك المياه في الأبنية السكنية القائمة والمؤسسات العامة والفنادق دون التأثير على جودة الخدمات أو القطاع السياحي.
خلاصة القول إن الأزمة التي يعيشها الأردن اليوم لا تحتمل التردد في اتخاذ القرار. فكل يوم تأخير يزيد من تعقيد المشكلة ويرفع من كلفتها مقدارا كبيرا. لم نعد نملك رفاهية الوقت، وإذا لم نبدأ بتنفيذ إصلاحات جذرية الآن، فإن قادم الأيام سوف يكون أشد قسوة، وقد نجد أنفسنا أمام كارثة مائية تهدد استقرار القطاعات كافة؛ هذا من دون التحدث عن حاجات أي لاجئين جدد للمياه!