د. صلاح العبادي : الموت تحت القصف أم الموت جوعاً؟!

عربات جدعون في مظهرها تبدو عمليّة عسكريّة إسرائيليّة بريّة؛ لكنّ في باطنها هي إعادةُ السيطرة والتقسيم لقطاع غزّة تحت النار!
إسرائيل لا تكتفي بالهجماتِ والغارات، بل ترسمُ خطوط السيطرة بخرائط ميدانيّة، وتعيد توزيع السكان ضمن مناطق مغلقة، تفصلها محاور عسكريّة محصّنة. فهل تسعى إسرائيل لإنهاء معركتها مع "حماس" فقط أم لإعادة احتلال قطاع غزّة من جديد؟!
توعد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالسيطرة على كامل قطاع غزّة، وأشار إلى أنه سيسمح بإدخال الحد الأدنى من المساعدات الإنسانيّة والإغاثيّة والطبيّة للقطاع، منعاً للمجاعة!
الجيش الإسرائيلي أعلن أنّه بات في خِضم الهجوم البري الموسع، والذي أطلق عليه اسم عربات جدعون في غزّة، قائلاً إنّ قواته تعمل في جميع أنحاء القطاع دون أي تغيير، في صورة الوضع حسب قوله، بعد أن استدعى الجيش الإسرائيلي الآلاف من جنوده الاحتياط؛ وسط تسريب خطة تقسيم القطاع وتطويقهِ بمناطقَ عسكريَّة.
عمليّة عربات جدعون لا تكتفي بالضربات الجويَّة، بل تمتدُ إلى محاولةِ تقسيم غزَّة إلى مناطق معزولة، محاطةٍ بأربعةِ محاورٍ عسكريَّة تفصلُ ما تبقى من مدنِ القطاع إلى جيوبٍ محاصرة يحشر فيها السكان الفلسطينيون، تحت رقابة مشدّدة.
أولى هذه المناطق عند محور مفلاسيم الذي يفصلُ بلدات شمال غزَّة عن مدينتها، ويقع قرب بيت لاهيا وبيت حانون.
ومنطقةُ وسطى تفصلُ دير البلح عن مدينةِ غزَّة عند محور نتساريم، وكذلك منطقة بجانب محور كسوفيم والذي يفصلُ دير البلح عن الجنوب، وبالتحديد مدينة خان يونس، وأخيراً منطقة عمد محور موراج الذي يفصل رفح عن خان يونس؛ حيث يدفع السكان تدريجياً نحو الجنوب.
التقارير الغربيّة تشير إلى أنّ هذه الجيوب المدنيَّة ستكون مفصولة بجدرانٍ عسكرية، ومناطق يحظرُ التنقل فيها دون تصاريح خاصَّة أو إجراءات تفتيش مشدَّدة.
الجيش الإسرائيلي الذي يقوم بعمليات إخلاء واسعة في القطاع، أعلنَ أنّ أكثر من مئة وستينَ هدفاً تم قصفها خلال الساعات التي سبقت التحضير للعمليّة العسكريّة.
عربات جدعون تهدف إلى حصر سكان القطاع جنوباً، وتوسيع العمليات العسكريّة تحت ذريعة القضاء على حماس وبنيتها التحتيّة وفق ما يقول المسؤولون الإسرائيليون.
عربات جدعون إنطلقت لتدهس المزيد من سكان القطاع، ومعه قد يقضى على جهود التهدئة، التي يقول القائمون عليها، إنّهم يواصلون العمل لحين التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.
الموت تحت القصف بدلاً من الموت جوعاً هو خيار نتنياهو لسكانِ غزَّة، بعد أن أعلن السماح بإدخال أقل من الحدِ الأدنى من المساعدات الإنسانيّة للقطاع.
ورغم التصعيد الميداني في القطاع، إلا أنّ جهود التهدئة ما تزال تقاوم من أجل البقاء؛ فالبيت الأبيض قال إنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب يواصل الانخراط في محادثات وقف إطلاق النار في القطاع، وتمارس الولايات المتحدة ضغوطاً كبيرة من أجل التوصل إلى اتفاق بشأن غزَّة، وإنهاء الحرب؛ من خلال المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف الذي يضغط على إسرائيل وحركة حماس؛ للموافقة على مقترح جديد قدّمه قبل أيام حول صفقة بين الطرفين.
ويبقى ميدان غزَّة مشتعلاً؛ حيث أنّ الجيش الإسرائيلي أعلن أنّ قواته تعمل في جميع أنحاء القطاع، دون أي تغيير في صورة الوضع، بعد أسبوع واحد من الغارات الجويّة المكثفة التي استهدفت أكثر من ستمئة وسبعين موقعاً في القطاع، زعمت إسرائيل أنها لحركة حماس.
وتسعى إسرائيل إلى توسيع نطاق الحرب في المرحلة الأولى من الإخلاء الشامل لسكان غزّة إلى جنوبي القطاع، وستستعين إسرائيل بشركات مدنيَّة بهدف ترسيم المناطق التي سيحدّدها الجيش، مع إجراءات تفتيش للداخلين إليها.
وفي المرحلة الثانية تفعيل الخطة الإنسانيّة التي ستعقب العمليّة العسكريَّة وإخلاء السكون نحو الجنوب، وتنفيذ العمليات العسكريّة الجويَّة والبريَّة ونقل السكان إلى مناطق تزعم بأنّها آمنة في رفح، ومن ثم اقتحام قوات عسكريَّة للقطاع؛ لاحتلال أجزاء واسعة من القطاع، بشكل تدريجي للإعداد لوجود عسكري طويل الأمد في القطاع، تحت ذرائع مزعومة للجانب الإسرائيلي متمثلة في القضاء على حماس وهدم الأنفاق!
وتبقى عربات جدعون رهاناً إسرائيلياً خاسراً عنوانه القضاء على المقاومة الفلسطينيّة في القطاع، سيكون لها انعكاسات كبيرة على المسار التفاوضي سياسيّاً والأوضاع الإنسانيّة في غزَّة، والتي ستكون صعبة على سكان القطاع، وكأنّ الحرب تعود من جديد والآليات العسكريّة الإسرائيليّة ستداهم جميع الأحياء الفلسطينية في غزّة، وأعداد الضحايا ربما ستكون بالمئات أو الآلاف إذا ما ثبّتوا في شمال قطاع غزّة، كما حدث خلال الفترة الأولى من الحرب.
إسرائيل تعتقد أنّ العمليات العسكريّة يمكن أن تشكل مزيداً من الضغط على حركة حماس، أو على المفاوض الفلسطيني سواء كان في القاهرة أو الدوحة؛ وهذا لم يحدث خلال تسعة عشر شهراً الماضية من هذه الحرب المستعرة.
كما أن إسرائيل تتجاهل أنّ هذه العمليّة من شأنها القضاء على الأسرى الإسرائيليين المتبقين من الأحياء، إن كان من خلال الجوع وانعدام توافر الطعام لهم، إن لم يتم القضاء عليهم من خلال آلة الحرب الإسرائيليّة والقصف بأشكاله المختلفة.
المجتمع الدولي اليوم يأتي بمواقف سياسّة مختلفة رافضة للحرب، ولسياسة الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، ومعزّزة لرؤية ضرورة ضمان إنسيابيّة إدخال المساعدات للقطاع، للحيلولة دون تفشي المجاعة وحدوث المزيد من الكوارث الإنسانيّة.
كما أنّ المفاوضات الدائرة اليوم تبقى ضمن المعادلة الصفريّة، مع تمسك كل من طرفيها بموقف لا يتقبله الطرف الآخر، ما لم تتدخل الإدارة الأميركية بحزم لصالح وقف هذه الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، وضمان ادخال المساعدات الإنسانيّة والطبيّة. ــ الراي