د. شهاب المكاحلة : الإخوان المسلمون وخطر المقامرة بالأردن

في لحظة تاريخية فارقة، وبينما تتقلب المنطقة على جمر التحولات الكبرى، كشفت جماعة الإخوان المسلمين في الأردن عن مستوى صادم من العمى السياسي والتهور الاستراتيجي. إن الأزمة الفلسطينية الراهنة وضعت الجميع أمام اختبار حقيقي للوعي الوطني والمسؤولية التاريخية، واختارت الدولة الأردنية أن تقف بشرف وصلابة إلى جانب الحق الفلسطيني، متوازنةً بين واجبها القومي ومصالحها الوطنية العليا. إلا أن الإخوان، كالعادة، أثبتوا أنهم يعيشون خارج سياق الزمن والمكان، يسيرون وفق أوهام شعاراتية لا تراعي لا مصلحة وطن ولا منطق سياسة.
قرار الدولة بحظر الجماعة تنطوي عليه تداعيات داخلية وخارجية، لا سيما وأن الجماعة وحزبها المرخص لا يؤمنان بفكرة الدولة الوطنية، فنظرة الأخوان المسلمين عابرة للجغرافيا والحدود وتحمل من الشعارات البراقة ما تحمل من سراب سياسي يودي بأبناء الوطن الى مأوي الردى دونما تحقيق أية اهداف بناءة تنهض بالوطن ضمن حدود الممكن السياسي والعسكري، لا ضمن أحلام المراهقة الثورية.
لم يكن الموقف الأردني خلال الأزمة مجرد انفعال شعبي أو إعلامي، بل كان سلسلة متواصلة من القرارات السيادية: استدعاء السفير الأردني من تل أبيب، طرد السفير الإسرائيلي من عمان، إقامة مستشفيات ميدانية لدعم أهل غزة، إرسال قوافل المساعدات الطبية والإنسانية، والمشاركة الفاعلة في كل المحافل الدولية لنصرة فلسطين. بل فتحت الدولة المجال أمام المواطنين للتعبير عن غضبهم بكل حرية، عبر التظاهرات والمسيرات، دون قمع أو تضييق. هذا الموقف النبيل والمتزن كان كفيلاً بأن يُقابل بدعم وطني شامل، لا بمراهقة سياسية عمياء.
ومع ذلك، لم تجد جماعة الإخوان في كل هذه المواقف إلا فرصة لاستغلال الحدث لصالح مشروعها التنظيمي، متناسية أن الأردن ليس ساحة تجريبية لمغامراتها العقائدية ، الخالية من أي حساب للمصالح الوطنية، أو تقدير لحساسية الموقع الجغرافي والديمغرافي والسياسي للأردن، وسط بحر مضطرب من النزاعات الإقليمية.
إن دعوة الإخوان إلى القفز في المجهول دون إعداد أو رؤية استراتيجية ليست سوى وصفة كارثية مؤكدة. الأردن، بموارده المحدودة وجغرافيته الضاغطة، لا يحتمل المغامرات الصبيانية. المعاهدة مع إسرائيل، أياً كانت مواضع الخلاف عليها، هي إحدى أدوات إدارة الصراع وليس إنهائه، وهي صمام أمان يحمي الأردن من الانزلاق إلى مواجهات لا قدرة له على تحمل نتائجها. إسقاط هذه الورقة دون بدائل حقيقية ليس بطولة، بل انتحار سياسي مكتمل الأركان.
لقد أثبتت جماعة الإخوان أنها أسيرة لمنطق التجييش والتحريض لا منطق الدولة والعقل. بدل أن تسهم في تعزيز الموقف الوطني الأردني وتدعيم أوراقه التفاوضية، حاولت شق الصف الداخلي، وإثارة الفوضى، ضاربةً بعرض الحائط المصلحة الوطنية العليا. ومما يبعث على السخرية أن الجماعة، التي تدّعي الدفاع عن فلسطين، لا تتوانى عن تعريض الأردن كله للخطر من أجل شعارات شعبوية جوفاء.
الحكمة السياسية تقتضي أن نعرف متى نقاتل ومتى نفاوض، متى نرفع الصوت ومتى نبني التحالفات. لا يكفي أن تصرخ دفاعاً عن فلسطين، بل يجب أن تبني استراتيجية ذكية تُفضي إلى حماية الأردن وتقوية الموقف الفلسطيني في آنٍ واحد. أما تحويل الأردن إلى ساحة للفوضى تحت ذريعة المقاومة، فليس سوى جريمة بحق الشعبين معاً.
إن التاريخ لا يرحم من يجهل دروسه. والأردن اليوم، بما يحمله من أعباء اللاجئين، وأزمات اقتصادية، وتجاذبات إقليمية، بحاجة إلى قيادة واعية، ومجتمع متماسك، لا إلى مغامرين يحركهم الحنين الأعمى إلى شعارات عفا عليها الزمن. فلسطين لا تحتاج إلى المزيد من الخطب الحماسية، بل إلى دول قوية قادرة على الصمود والمناورة.
ختاماً، على الأردنيين أن يدركوا أن معركتهم من أجل فلسطين تبدأ من حماية وطنهم أولاً، وصيانة أمنهم واستقرارهم. أما الإخوان، فقد اختاروا مرة أخرى أن يقامروا بمصير الأمة، مدفوعين بوهم الثورة الدائمة. ولكن الأردن، بقيادته الواعية وشعبه العاقل، سيبقى عصياً على العبث، حامياً للحق الفلسطيني ضمن حدود الممكن السياسي والعسكري، لا ضمن أحلام المراهقة الثورية.