حسام الحوراني : الذكاء الاصطناعي والتجسس الرقمي في العالم: من المراقبة إلى السيطرة الصامتة

في زمنٍ تتدفق فيه البيانات كالنهر، لم تعد المعلومة قوة فحسب، بل أصبحت سلاحًا، تُخاض به حروب خفية لا يسمع دويها، ولكن تُحدد مصائر دول وشعوب من خلف الشاشات. في قلب هذا المشهد، يتصدر الذكاء الاصطناعي المشهد كأداة مزدوجة: أداة للتقدم، وأداة للتجسس الرقمي، تملك من القدرات ما يجعلها أخطر من أي وكالة استخبارات تقليدية.
لم يعد التجسس الرقمي اليوم مسألة اختراق أجهزة أو التنصت على المكالمات فحسب. إنه علمٌ معقد تديره خوارزميات قادرة على تحليل أنماط السلوك، والتنبؤ بالقرارات، بل وحتى التأثير على الرأي العام دون أن يشعر أحد. والذكاء الاصطناعي هو العقل المدبر في هذا السيناريو، حيث تُغذى هذه الأنظمة ببيانات ضخمة تم جمعها من الهواتف الذكية، والكاميرات، ومنصات التواصل الاجتماعي، وسجلات الصحة، والتعاملات المالية، وحتى من الأجهزة المنزلية المتصلة بالإنترنت.
إن أخطر ما في الذكاء الاصطناعي حين يُستخدم في التجسس، أنه لا يراقب فقط، بل يفهم، ويتعلم، ويتطور. فبفضل تقنيات التعلم العميق، يمكن للأنظمة الذكية أن تستخلص أنماطًا خفية من سلوك المستخدمين، وتحدد هويتهم، وميولهم السياسية، ونقاط ضعفهم، بل وتُنشئ «بروفايلات رقمية» دقيقة عن كل فرد، تُستخدم لاحقًا في التلاعب أو الابتزاز أو التأثير أو الاستهداف التجاري أو الأمني.
الدول الكبرى باتت تُدرك أن معارك المستقبل لن تُخاض بالأسلحة فقط، بل بالمعلومة والتحكم بها. ولهذا، تُسابق الزمن لتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي تُراقب الداخل والخارج، تحلل النصوص، والصور، والمحادثات، وتكشف التحركات حتى قبل وقوعها. الولايات المتحدة، والصين، وغيرها من القوى العظمى، تمتلك بالفعل بنى تحتية هائلة للتجسس الرقمي المعزز بالذكاء الاصطناعي، تديرها جهات حكومية، أو حتى شركات خاصة متحالفة مع الحكومات.
ولا يتوقف الأمر عند الحكومات. فالشركات التكنولوجية العملاقة، التي تدير منصات يستخدمها مليارات البشر، باتت تمتلك بيانات حساسة أكثر مما تمتلكه معظم الدول عن مواطنيها. والأسوأ، أن هذه الشركات تطور نماذج ذكاء اصطناعي خاصة بها، قادرة على فهم النفس البشرية، وتوجيه السلوك الاستهلاكي، بل والسياسي، في أحيان كثيرة. وهنا يتقاطع التجسس مع الاقتصاد، مع الإعلام، مع الأمن، في شبكة معقدة يصعب الفصل فيها بين المراقبة الشرعية، والتجسس، والتحكم.
تُطرح هنا أسئلة مقلقة: من يضمن أن هذه الأنظمة تُستخدم فقط لأغراض أمنية مشروعة؟ ومن يراقب الخوارزميات التي تراقبنا؟ وإذا كان الذكاء الاصطناعي قادرًا على تحليل النوايا قبل أن تتحول إلى أفعال، فأين تقف حدود الخصوصية؟ وهل يمكن لدولة أن تبرر التجسس على مواطنيها بدعوى الحماية، بينما تنتهك حريتهم في العمق؟
الحالات الواقعية كثيرة. من برامج التجسس المتطورة مثل «بيغاسوس»، إلى اتهامات شركات مثل «تيك توك» بجمع بيانات حساسة، إلى تقارير عن مراقبة ملايين الأفراد عبر كاميرات مزودة بتقنية التعرف على الوجه في مدن كبرى حول العالم. كل هذه الأمثلة تؤكد أن الذكاء الاصطناعي لم يعد فقط أداة لتحسين حياتنا، بل أداة لكشفها وسَبرها والسيطرة عليها في بعض الأحيان.
وفي المقابل، لا بد من الاعتراف بأن الذكاء الاصطناعي يوفر إمكانيات هائلة لحماية الأمن القومي، ومكافحة الإرهاب، والجريمة المنظمة، والاحتيال الرقمي، شريطة أن يُستخدم ضمن إطار قانوني وأخلاقي صارم، يوازن بين الحماية والحرية.
الحل لا يكمن في وقف تطور الذكاء الاصطناعي، بل في تأطيره بقوانين واضحة، وبحوكمة شفافة، ومساءلة مستمرة. لا بد من إنشاء آليات رقابة دولية على استخدام الذكاء الاصطناعي في مجالات المراقبة، تمامًا كما يحدث في مجال الأسلحة النووية أو البيولوجية. كما ينبغي فرض شفافية على شركات التكنولوجيا بخصوص بيانات المستخدمين، وكيف تُستخدم، ولمصلحة من.
كما أن على الأفراد أن يدركوا أهمية وعيهم الرقمي. الخصوصية لم تعد خيارًا افتراضيًا، بل مهارة نحتاج إلى تطويرها لحماية أنفسنا. علينا أن نتعلم كيف نُنشئ وجودًا رقمياً ذكيًا، نعرف حدوده، ونُحسن استخدام أدواته، دون أن نقع ضحايا في شبكة معقدة من الخوارزميات التي تعرف عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا.
في نهاية المطاف، الذكاء الاصطناعي والتجسس الرقمي هما وجهان لعملة واحدة: المعرفة والتحكم. الفرق بين الأداة التي تحمينا وتلك التي تقيّدنا هو من يستخدمها، ولماذا. إنها معركة صامتة، لا تُخاض في ساحات القتال، بل في مراكز البيانات، وعلى خطوط الكود. السؤال الحقيقي هو: هل سنكون طرفًا واعيًا فيها... أم مجرد أهداف ذكية سهلة المراقبة؟