الأخبار

د. محمد العرب : سجناء الذكاء القهري

د. محمد العرب : سجناء الذكاء القهري
أخبارنا :  

في مكان ما من هذا العالم، لا يزال هناك من يعتقد أن الذكاء هبة خالصة، وأن من أُوتيَ نعمة التحليل قد نال شرف السكينة العقلية ولكن الحقيقة أكثر قسوة مما توحي به كتب التنمية وخزعبلات المتفلسفين ، هناك نوع من الذكاء لا يُكافأ صاحبه بالنجاح، بل يُبتلى به كما يُبتلى المرضى المزمنون بأجسادهم ،إنه الذكاء التحليلي القهري حيث العقل الذي يفكك كل شيء حتى نفسه !

صاحبه لا يرى الأشياء كما هي، بل كما يمكن أن تكون، أو كما يُحتمل أن تكون، أو كما يُخشى أن تكون. كل تفصيلةٍ هي مدخل لتحليلٍ لا ينتهي، وكل قرارٍ هو احتمالات متضاربة لا تُحسم وهؤلاء لا يعيشون اللحظة، بل يسكنون بين جدران الاحتمالات، يخافون الخطأ كما يخاف الطفل الظلام، ويُجهدون عقولهم في تفكيك أبسط المواقف اليومية إلى اكثر من فرضية، وكل فرضية تحمل اكثر من تأويل وكأنهم يبنون متاهة لا مخرج منها، ويسيرون فيها وحدهم.

هم ليسوا مهووسين بالنجاح بل بالوضوح ، ليسوا باحثين عن الكمال بل هاربين من الغموض ولو سألهم أحد: لماذا تُفكر بهذه الطريقة..؟

لقالوا: لأنني أريد أن أفهم كل شيء، قبل أن أُخدع، قبل أن أندم، قبل أن أخطئ !

لكن في سعيهم هذا، لا يفهمون سوى المزيد من الشك، ولا يحصدون سوى الخوف من كل طريق.

الذكاء التحليلي القهري هو لعنة من يعجز عن إغلاق الملفات الذهنية. إنهم لا يملكون زر الإغلاق، كل شيء لديهم مفتوح على طاولة العقل، وكل نقاش هو حلقة في سلسلة لا تنتهي، وكل شعور لا يُؤخذ كعاطفة بل يُحلل: لماذا شعرت؟ هل كان شعوري صادقاً؟ ما الذي سببه؟ ماذا لو لم أشعر؟ هل شعوري متأثر بذاكرة سابقة؟ هل هذه الذاكرة موثوقة؟ وهكذا، حتى تتآكل الفكرة من كثرة الحفر.

هم متعبون دائماً ليس من ضجيج الخارج بل من صوت داخلي لا يصمت ، يرتابون في أقرب الناس، ليس من سوء نية، بل لأن عقولهم لا تسمح لهم بالثقة العمياء. يرون الكلمات كأقنعة، والابتسامات كاحتمالات، والمواقف كرموز مشفّرة يجب تفكيكها وفهم مراميها. في الحب، يعانون. لا يستسلمون، لا يصدقون، لا يهدأون. يريدون الحب الكامل المفهوم المتماسك، بينما الحب الحقيقي غالباً ما يكون فوضوياً، غريزياً، بلا منطق !

هؤلاء الأشخاص لا يُبدعون لأنهم أحرار، بل لأنهم أسرى ،الفن أحياناً يصبح وسيلتهم الوحيدة للنجاة من التحليل. الكتابة، الرسم، التأمل، ليست هوايات بالنسبة لهم، بل مخارج طوارئ من عقل لا يرحمهم. وإن توقفوا عن الكتابة، أو عن البوح، يبدأون بالاشتعال من الداخل. كأن الأفكار غير المفرغة تتحول إلى رماد يخنق أرواحهم.

أكثر من ذلك، تجدهم في الاجتماعات صامتين، وفي الحوارات متأخرين في الرد. ليس لأنهم لا يملكون رأياً، بل لأن عقولهم تقرأ الموقف، وتحلله، وتفكك خلفيات المتحدث، وتحسب أثر الكلمة، ثم تسأل: هل من الضروري أن أتكلم؟ ما الذي سيحدث بعد قولي؟ هل هناك تبعات؟ فتضيع اللحظة، ويبقون صامتين، مثقلين بما لم يقولوه.

في السياسة لا يصدقون الشعارات وفي الدين لا يرتاحون للتلقين وفي الفلسفة يغوصون في دوائر لا تنتهي ، يبحثون عن اليقين وهم يعرفون مسبقاً أنه البحث قد يضعهم في متاهات التأويل انهم يشبهون غواصي الكهوف الذين لا يستطيعون العودة، لأن الحبل الذي يدلّهم على السطح قد انقطع من شدة التقدم.

المجتمع لا يفهمهم، بل يراهم (معقدين) او (مجانين) ، أصدقاؤهم يملّون من مداخلاتهم، وشركاؤهم يهربون من صراحتهم الفاحصة. يُطلب منهم أن يكونوا (أخف) أن يضحكوا أكثر، أن يتوقفوا عن السؤال، لكنهم لا يستطيعون. الذكاء التحليلي القهري ليس اختياراً، بل تكوين ذهني لا يُفكّ إلا بثمنٍ باهظ.

إنهم غرباء، حتى في وسط الازدحام. لا ينسجمون بسهولة، ولا يعيشون ببساطة. وأعظم مأساة في عقولهم: أنهم لا يملكون دليل الخروج منها.

فيا من وُهِبتَ بسطةً في العقل تمهّل ، ليس كل فهمٍ سكينة وليس كل تحليلٍ نوراً .غالباً أذكى العقول هي أكثرها وجعاً.

مواضيع قد تهمك