الأخبار

أ. د. هيثم العقيلي المقابلة يكتب : الواقع الاجتماعي السياسي الأردني: أين النموذج الثقافي

أ. د. هيثم العقيلي المقابلة يكتب : الواقع الاجتماعي السياسي الأردني: أين النموذج الثقافي
أخبارنا :  

ذكرت في المقالة السابقة ضرورة انشاء نموذج ثقافي اردني يشكل قوة ناعمة و احتواء للتيارات الثقافية الدخيلة و ان مقومات هذا النموذج الانتماء الوطني و الولاء للقيادة الهاشمية و القيم العربية الاصيلة التي تمثلها العشائر من النخوة و الرجولة و الشجاعة و التي يلخّصها مصطلح النشامى. أطرح في هذه المقالة الآليات العلمية التي تشكل السلوك و آلية التفكير الاجتماعي و الفردي من منطلق علمي لتكون هي الاساس في تشكيل و نشر هذا النموذج.

يتكون العقل البشري من العقل الباطن (الغريزي و العاطفي) و العقل الواعي. يتحكم العقل الباطن في ما يزيد على 95 بالمئة من سلوكنا و يشكل قناعاتنا العاطفية و الدينية و الاجتماعية في حين ان العقل الواعي (المنطقي) مسؤول فقط عن نسبة بسيطة من السلوك و الحياة اليومية و في اوقات محددة و هي التي تحتاج انتباه و تفكير و تحليل و تخطيط. لذلك نجد ان الدراسة و التفكير و الوعي و الادراك و المتابعة مجهده فهي تستهلك كم كبير من طاقة الجسم و بما ان العقل و الجسم يميلان الى حفظ الطاقة و توفيرها للعمليات المهمة من الايض و القلب و الكلى و غيرها فنجد ان الانسان يميل لمجاراة العقل الباطن الذي لا يحتاج كم طاقة بل و يسمح للعقل الباطن بالتحكم به من خلال الغرائز و العواطف و المصالح الآنية و الرغبات. هذا علميا منطقي لان الدماغ يشكل تقريبا واحد و نصف بالمئة من وزن الجسم في الوقت الذي يحتاج خمس ما يضخه القلب من الدم و معه بالتالي خمس الاوكسجين و المواد الغذائية. بالتالي فقد طور الدماغ آلية بقاء خاصة به من ذراعين الاولى هي الامن (القتال و الهرب) و الثانيه هي المتعة (الرغبة و السعادة و المتعة) و بقي اهمية العقل الواعي هو في تنظيم تلك الذراعين و كبح جماحهما و ايجاد الحلول الابداعية و الخيال و التخطيط المستقبلي بناء على الذاكرة و الخبرات المتراكمة المخزنة في العقل الباطن. لكن يبقى التقليل من استخدام العقل الواعي هدف للدماغ لذلك تميل الجماهير و نسبة عالية من البشر للاعتماد على العقل الباطن بما يمثله من غرائز و عواطف و قناعات و مصالح تضمن البقاء و تجنب الالم و المعاناة.

من ذلك نرى ان آلية التفكير و السلوك الفردي و الاجتماعي تحددها برمجة واعادة برمجة العقل الباطن فعندما تكون هنالك أهداف وظروف يتوقع منها الانجاز و المتعة و السعادة فذلك يثير حلقة المكافأة في الدماغ فتفرز التشابكات العصبية الدوبامين الذي يمنح الفرد الرغبة و الالحاح و الدافعية للتفكير و السلوك لتحقيق تلك المتعة و السعادة فما ان تتحقق حتى تمنح شعور من نشوة النجاح من افراز السيروتونين و الاندورفين و ينخفض الدوبامين فيتبع الانجاز شعور بالفراغ و تراجع الدافعية و ينطلق الدماغ لتحقيق اهداف جديدة. هذا نراه في كل تفاصيل حياتنا و كل تفاصيل سلوكنا اليومي قائم على ذلك. نجوع او نعطش فالدماغ تعلم الشعور بالمتعة من الشبع و الارتواء فنسعى للطعام و الماء فما ان نشبع و نرتوي حتى لا نطيق رائحته الى ان نجوع من جديد. أما في الحياة فإن الاهداف التي تحقق المتعة و السعادة مثل الشهرة، المنصب، المال، الالعاب، العلاقات النسائية، وسائل التواصل الاجتماعي، الاستهلاك و الشراء و القبول الاجتماعي و غيرها تقوم على نفس المبدأ مع اختلاف بسيط و هو أن كل الاهداف مجردة القيمة يكون إفراز الدوبامين و تأثيره قصير الامد و يحتاج للتكرار المستمر في حين ان الاهداف ذات القيمة و التي تعزز احترام الذات يكون تأثير الدوبامين طويل الامد بما يحقق الرضا و التصالح النفسي مع الذات.

لذلك نرى الساعي الى المال لاجل المال لا يشبع في حين الساعي الى المال من خلال تطوير الذات و تعزيز الكفاءة الذاتية و المواهب و باهداف قيمة مثل حماية الذات و الاسرة من الحاجة فهؤلاء نجدهم في استقرار نفسي و رضى حتى بالقليل و ذلك ايضاً نلاحظه في الساعين الى الشهرة او الاستعراض الاجتماعي (الوجاهة) يركزون على التصوير و الاستعراض و الحضور و التواجد دوما و حتى تقديم التنازلات للحفاظ على تكرار افراز الدوبامين بالمقابل نجد من يشتهر من خلال محتوى مفيد او يحصل على الوضع الاجتماعي او المنصب من خلال الكفاءة الحقيقية و تطوير الذات في وضع مستقر و يمتلك مساحة من الارادة الحرة. اكتفي بهذه الامثلة حتى لا اطيل و اذكر الذراع الآخر و هو الأمن (القتال او الهرب) فعندما يتعرض الفرد لتهديد حقيقي فان العقل الباطن يقاتل ان كان قادرا او يشجع الهرب للحصول على الامن. لكن الذراع الثاني في حالة الجماهير له تأثير خاص ففي وجود حراك جماهيري تجد انه يتزايد مثل كرة الثلج لان الفرد يشعر بالأمان من المحاسبة و الانتماء لفكر و سلوك جمعي يقبله و تغيب تقييمات الصح و الخطأ بلجم العقل الواعي بقوة العقل العاطفي الباطن. لذلك نجد ان التيارات الثقافية تميل للتركيز على العاطفة الدينية او القومية او الانسانية و على تشكيل الجموع مع ايجاد المبرر العقلي بعدالة الهدف وسموه والمظلومية للهرب من التأنيب الذاتي فتحقق بذلك استثارة التشابكات العصبية المسؤولة عن الرغبة والأمن معا فهنالك انجاز او متعة في تحقيق العدل او الرضا الديني و هنالك أمن تضمنه الجموع و المظلومية و هنالك فوضى تسمح بالارتقاء الاجتماعي في مجموعة معينة بدون جهد حقيقي.

لذلك نجد ان العقل الواعي يركز على الانضباط في حين ان العقل الباطن يركز على الغريزة و الرغبة و العاطفة و الامن الذاتي.

ملخص ما سبق ان التيارات الثقافية باشكالها تخاطب الجماهير من خلال عقلها الباطن مستهدفه اما العواطف السامية او الغرائز او الامل بتحقيق الامن المعيشي او النفسي او الاجتماعي وتهرب بل وتمنع وجود محاكمه عقلية واعية للاتباع حتى يسهل السيطرة و التوجيه و عادة ما تتسلح بقضية عادلة او عاطفة دينية او قومية او عرقية او حتى عشائرية. و اضيف الى ذلك ان التيارات الثقافية تعتمد تكرار الروايات و الاساطير و التي تركز على الطرف الاخر للتقليل من قيمته بالتكفير او التخوين و الاتهامات التي لا تنتهي ليشعر اتباعها بالسمو و قبول الحاق الاذى بالآخر بل و استساغته ليصبح هدفاً سواءً كان الاخر فردا او مؤسسة او وطن او دولة.

نقطة لا بد من التأكيد عليها و هي تفسر الكثير من فكر التيارات الثقافية الدخيله. ان الجماهير لا يجمعها رؤية و اهداف مشتركة بل عدو مشترك او فكرة معادية مشتركة لذلك فإن التيارات تخلق عدو و تمتهن التكرار و الانقاص من القيمة الاخلاقية و المعنوية له لتوحد الاتباع فلا يجب ان ننخدع باي طروحات من قبل تلك التيارات بالتعاون و التعايش لان بقائها قائم على تأطير الوطن و الوطنيين كعدو.

اختم واقول، إن الافكار اقوى من السلاح فهي عابرة للحدود و عابرة للزمن و من لا يمتلك نموذج فكري ثقافي سيبقى في موقع المدافع يعاني للإقناع في الوقت الذي غيب فيه العقل الواعي للجماهير و سيخسر المعارك شيئا فشيئا دون ان يشعر فتتحول الجماهير من تغيير رؤيتها للواقع بعقلانية الى تغيير الواقع بفوضى و عاطفية منحرفة و مشوهة فكريا.

مواضيع قد تهمك