الأخبار

د. احمد يعقوب مجدوبة : ماذا حدث لقريتنا الصغيرة؟

د. احمد يعقوب مجدوبة : ماذا حدث لقريتنا الصغيرة؟
أخبارنا :  

مع قُربِ حلول الألفية الثالثة، وبالذات في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، ظهر بقوة مصطلح «القرية الصغيرة».

والمصطلح يشير إلى أن التطورات المُتسارعة في حينه – ومنها بزوغ فجر ثورة المعلومات والتكنولوجيا وبروز مفهوم العولمة والاحتفاء بعصر «التعددية الثقافية» وانتهاء عهد الحرب الباردة التي قَسّمت العالم إلى قُطبين متصارعين وبؤر توتر كثيرة – وضعتنا على أعتاب مرحلة جديدة تُبشّر بالخير للإنسانية.

أو هكذا خُيّل لنا.

مفهوم «القرية الصغيرة» وشى بأنّ البشرية أصبحت أكثر انفتاحاً على نفسها وأنّ الدول صارت أكثر قرباً وتفاهماً؛ وأنّ هنالك مصيراً مشتركاً للأرض، وأنّ نهاية الاستقطابات تعني، في جزء منها، فهماً أعمق للثقافات التي تتكون منها «قريتنا»، وتفاهماً أكثر.

وهذا ما قُصد بالعولمة، وما فُهِم من احترام تعددية الثقافات وما استُشفّ من تعميم الاستخدامات التقنية على الجميع.

وأكثر ما همّني شخصياً، بحكم تخصصي في الآداب وسياقاتها الثقافية والحضارية، مفهوم تعدد الثقافات، والذي كان يعني ليس فقط الاعتراف بالثقافات المختلفة التي يتكون منها عالمنا الصغير، بل انتهاء مركزية وهيمنة جزء منها، وبالتحديد الثقافات الغربية، على غيرها.

المفهوم الذي ساد لثلاثة عقود أو أكثر تَمثّل في أن لا ثقافة أهم من غيرها، فكلّها مهمة، وإن كان الفرد ينتمي إلى ثقافة ما ويؤمن بها، فهذا لا يتنافى مع انفتاحه على الثقافات الأخرى واحترامه لها.

بدا انفتاح الناس على ثقافات الآخرين غير مسبوق؛ وبدأت الدعوة إلى حوار الثقافات تُؤخذ على محمل الجدّ؛ ومن هنا جاء الإقبال المتزايد على تعلّم اللغات العالمية، ومنها اللغة العربية؛ مع بقاء اللغة الإنجليزية مُسيطرة على المشهد ولاعبة دوراً في التواصل بهدف الفهم والتفاهم.

كانت الفكرة أن البشرية بحاجة إلى طيّ صفحة الحروب والصراعات والتوتر والتنافس السلبي من أجل بناء ثقافة قوامها التفاهم والتعاون الجمعي بهدف التصدي للتحديات المصيرية التي تتعرض لها شعوب الأرض.

ومن أهم التحديات المؤثرة على الكلّ، والتي لخّصها العلماء والمنظّرون: الاحتباس الحراري، وانتشار الأسلحة النووية، وبروز الذكاء الاصطناعي، من بين تحديات أخرى كثيرة تتمثل في توترات وحروب وصراعات لا مبرر لها.

بيد أن بريق هذا الأمل، أي أن تُصفِّر الأرض إشكالاتها وتبايناتها وصراعاتها، وتعمل يداً واحدة تحت مفهوم «القرية الصغيرة» المتناغمة، بدأ يخبو ثم يضمحل ويتلاشى منذ بداية الألفية، وبالذات مع نهاية العقد الأول منها، والذي أخذ يشهد من جديد تفجّر الصراعات والحروب والثورات الانقلابية وخراب الدول.

عدة أمور معاكسة حدثت، من أهمها أن ما كان يُعدّ مِعول بناء، صار مِعول هدم. من ذلك ثورة التكنولوجيا والمعلومات ذاتها، حيث استخدمها البعض للتخريب والتدمير، كما استُخدمت المعلومات واستُخدم الإعلام للتدليس والتضليل؛ وأصبحت العولمة تعني السطوة والهيمنة للبعض على الآخرين.

وأخذ بعضهم ينعى صراحة موت التعددية الثقافية، وبدأت العنصرية والهيمنة والغطرسة واللغط تُطلّ علينا من جديد؛ وأصبح عالم الأرض مليئاً بالتوترات والاستقطابات؛ وصارت التحديات التي تُهدّد البشرية وكوكب الأرض أكثر تصاعداً واستفحالاً.

أمرٌ محزن ما حصلَ ويحصل، ونتساءل اليوم، بحسرة ومرارة وخوف على مستقبل البشرية: ماذا حدث لمفهوم «القرية الصغيرة"؟ هل عُدنا عنه؟ ولمصلحة من؟ ــ الراي

مواضيع قد تهمك