الأخبار

رنا حداد : بين العلم، والتاج، وشجرة الميلاد حكاية أردنية تُكتب بالنور

رنا حداد : بين العلم، والتاج، وشجرة الميلاد  حكاية أردنية تُكتب بالنور
أخبارنا :  

مع بداية كانون الأول، لا يدخل الشتاء إلى المدن الأردنية وحسب، بل يدخل معه دفءٌ خاص لا علاقة له بدرجات الحرارة. دفء تصنعه الأضواء، وتنسجه الشرفات، وتعلنه شجرة الميلاد وهي تُضاء في الساحات العامة، من عمّان إلى مادبا والسلط، ومن الفحيص إلى اربد والعقبة والكرك، في مشهد أصبح طقسًا وطنيًا غير مكتوب، لكنه راسخ في الوجدان.
لم تعد إضاءة شجرة الميلاد حدثًا موسميًا عابرًا، ولا مجرد مناسبة احتفالية مرتبطة بتقويم ديني، بل تحولت إلى لحظة جامعة، يلتقي حولها الأردنيون دون أسئلة الهوية الضيقة. لحظة يرى فيها الناس أنفسهم جزءًا من مشهد واحد، يبتسمون للضوء ذاته، ويشاركون الفرح ذاته، ويقفون تحت الشجرة كما يقفون تحت العلم: بطمأنينة الانتماء.
تحمل شجرة الميلاد في أصلها دلالات روحية عميقة؛ وبالمناسبة لم تذكر في الكتاب المقدس، كما لم يذكر تاريخ عيد الميلاد، ولكنها حلت بدل طقس وثني كان الاطفال يعلقون على الاشجار كتقدمات لعيد الشمس، ثم أصبحت الشجرة رمزًا للفرح والحب والسلام، والأهم الاحتفال بحياة، وتجدد حياة البشر ودحض لمعتقدات نالت من سلامة الانسان وحضوره.
الشجرة، رمز للحياة التي لا تنطفئ، وللأمل الذي يتجدد رغم قسوة الفصول. في الوعي المسيحي، ترتبط بميلاد السيد المسيح، رسالة السلام والمحبة، لكن في السياق الأردني، تجاوزت الشجرة معناها الطقسي لتدخل مساحة أوسع، مساحة إنسانية واجتماعية تتسع للجميع.
في الأردن، لم تبقَ شجرة الميلاد حاضرة في البيوت والكنائس فقط، بل انتقلت إلى الشوارع، وتربعت في واجهات المحال، واحتلت مكانها في ذاكرة الأطفال. باتت جزءًا من المشهد العام، تحتفي بها عائلات مسلمة ومسيحية على حد سواء، لا باعتبارها رمزًا دينيًا خالصًا، بل باعتبارها إعلانًا سنويًا عن الفرح، وعن حق الناس في الاحتفال بالحياة.
وفي كثير من البيوت الأردنية، تتحول لحظة تزيين الشجرة إلى طقس عائلي حميم. تتشارك الأيدي في تعليق الزينة، ويتقاسم الكبار والصغار الضحكات، وتُستعاد قصص الأعوام السابقة. هنا، لا تكون الشجرة مجرد ديكور، بل مساحة لقاء، وأداة غير مباشرة لإعادة ترميم العلاقات الأسرية، وتعزيز الشعور بالقرب، في زمن العزلة.
تشير دراسات اجتماعية ونفسية إلى أن الطقوس الجماعية المتكررة تعزز الإحساس بالأمان والانتماء، وشجرة الميلاد مثال حي على ذلك. كل قطعة زينة تحمل ذكرى، وكل ضوء يحكي قصة، لتتحول الشجرة إلى أرشيف عاطفي للأسرة، يُضاف إليه كل عام فصل جديد، ويُورَّث كجزء من الذاكرة العائلية، والوطنية أيضًا، تمامًا كما تُورَّث الحكايات.
ولا يقف أثر الشجرة عند حدود الاجتماع الأسري، بل يمتد إلى الحالة النفسية العامة. ففي ليالي الشتاء الطويلة، تخترق الأضواء البيضاء والزرقاء عتمة البرد، فتمنح شعورًا بالسلام والنقاء، بينما تذكّر الأضواء الحمراء، في رمزيتها، بمعاني الفداء والتضحية، وبقدرة النور الدائمة على مقاومة الظلام.
يرى مختصون في علم النفس أن الجاذبية البصرية للأضواء المتناسقة والألوان الهادئة تساهم في خفض مستويات القلق والتوتر، وتخلق بيئة نفسية أكثر توازنًا. ولهذا، لا يبدو الاحتفاء بشجرة الميلاد في الأردن فعلاً احتفاليًا فقط، بل حاجة وجدانية جماعية، خاصة في زمن مثقل بالضغوط والأخبار الثقيلة.
بين العلم الذي يختصر السيادة، والتاج الذي يرمز إلى الاستقرار، وشجرة الميلاد التي تعكس روح التعايش، تُكتب الحكاية الأردنية بصيغة مختلفة. حكاية بلد عرف كيف يحوّل تنوّعه إلى نقطة قوة، وكيف يصنع من الاختلاف مساحة لقاء وحب لا اختلاف.
قد تكون شجرة الميلاد رمزًا دينيًا في أصلها، لكنها في الأردن صارت جسرًا إنسانيًا، وعلامة ثقافية، ودليلًا حيًا على أن هذا الوطن، بتكوينه الاجتماعي المتعدد، قادر على إنتاج نموذج خاص من الاعتدال والتسامح، نموذج لا يُرفع كشعار، بل يُمارس كحياة يومية.
كل عام، تضيء شجرة الميلاد، ومعها يضيء شيء في الذاكرة الأردنية. وكل عام، يثبت هذا الوطن أن السلام ليس فكرة مجردة، بل سلوكًا يُرى، ويُحتفل به، ويُعلّق على الأغصان.
كل عام والأردن، بأهله ونوره، أكثر سلامًا ومحبة.

مواضيع قد تهمك