الأخبار

أ. د. احمد منصور الخصاونة :مع الأمير الحسين يبدأ الأردن كتابة فصله الجديد مع المستقبل

أ. د. احمد منصور الخصاونة :مع الأمير الحسين يبدأ الأردن كتابة فصله الجديد مع المستقبل
أخبارنا :  

كان المشهد في قاعة الافتتاح يشبه نهارًا يتقد من الداخل؛ ضوءٌ لا يأتي من سقفٍ ولا مصابيح، بل من حضورٍ يسير بخطى واثقة نحو منصةٍ تتّسع لروح وطن. وحين دخل سمو الأمير، بدا وكأن القاعة كلّها التفتت نحوه في لحظة واحدة، كأن الزمن نفسه توقّف قليلًا ليعيد ترتيب نبضه على وقع خطواته. لم يكن الافتتاح بروتوكولًا عابرًا، بل إعلانًا أن الأردن يتهيأ ليغدو وطنًا يقف على كتف المستقبل، لا على أطرافه. وقف سموّه أمام الحضور، لا ليقول كلامًا محفوظًا، بل ليفتح بابًا على عالمٍ جديد. كانت كلماته تمضي كمنسوب ضوء، تتقدّم بثقة وتستقرّ في وعي الحاضرين. في تلك اللحظة شعر الجميع بأن الأردن لا يشارك في العصر الرقمي صدفة، ولا يدخل ميدان الأمن السيبراني خوفًا أو محاكاة، بل يدخل لأن له دورًا وقيمة ورسالة، ولأن الزمن لم يعد يحتمل حياد من يريد البقاء.
ومع كل خطوة في أرجاء المعرض، كان سموّه يزرع في المكان معنى مختلفًا. كان يقترب من الشباب، يصغي إليهم بعينٍ تقرأ الفكرة قبل أن تُقال، ويشجّعهم بلا ضجيج. لم يكن مشهدًا عابرًا؛ كان دليلًا على أن الاستثمار الحقيقي ليس في الأجهزة التي تلمع، بل في العقول التي تتوهج. بدا الشباب حوله كأنهم جمرٌ ينتظر نسمة كي يشتعل، وسموّه كان تلك النسمة، يحرّك فيهم الإلهام، ويترك فيهم أثرًا لا ينسى. وفي زاوية أخرى، كانت الشركات العالمية تعرض أحدث ما وصلت إليه الصناعات الرقمية. لم يكن الحضور الدولي زينة للمشهد، بل شهادة أن الأردن صار نقطة التقاء للخبراء، وأن أمنه السيبراني مشروعٌ تُبنى حوله الثقة. كان ممثلو الشركات يتحدّثون بانبهار عن بيئة أردنية ناضجة، وعن مؤسسات تمتلك رؤية واضحة، وعن بلد صغير المساحة لكنه عظيم بما يحمله من إرادة واستقرار ومعرفة.
وفي إحدى المحطات، توقف سموّه أمام مشاريع الشباب في مسابقات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني. كانت الوجوه مضيئة، والأصوات ترتجف بين الخجل والفخر. كان كل واحد منهم يشعر أن ما بين يديه ليس مشروعًا للمسابقة، بل شهادة أنه ينتمي لوطنٍ يرى فيه القوة، ويثق به، ويمنحه فرصة ليقف في مقدمة الزمن. كان المشهد أشبه بمرآة تُظهر ملامح المستقبل: جيلٌ لا يكتفي بالاستهلاك، بل يصنع ويبتكر ويقدّم للعالم ما لديه من عبقرية. الأردن في تلك اللحظة لم يكن وطنًا يتعلّم من الآخرين فقط، بل وطنًا يعلّم الآخرين كيف يمكن لدولة صغيرة الموارد أن تصبح كبيرة في الطموح، وكيف يمكن لقوة الإرادة أن تعيد رسم قدر المكان. كان الأمن السيبراني الذي يتحدث عنه الخبراء ليس مجرد جدار يحمي البيانات، بل سياجٌ يحمي السيادة، ويحفظ الكرامة الرقمية، ويمنح الدولة حصانة في عالمٍ تتغير خرائطه كل يوم. كانت الكلمات تدور في القاعة: «التحول الرقمي»، «الذكاء الاصطناعي»، «حماية المستقبل». لكن الحقيقة الأكبر لم تكن في المصطلحات، بل في اللحظة الإنسانية التي تجمع كل ذلك. لحظةٌ تقول إن التكنولوجيا ليست خصمًا للإنسان، بل امتداد لقوته، وإن الريادة ليست حلم نخبٍ محدودة، بل طريقٌ مفتوح لكل من يملك الشغف.
وحين خرج سموّه من القاعة، شعر الحضور أن سيرة النهار لم تنتهِ، بل بدأت. شيء ما تغير. هواء المكان صار أثقل بالمعنى. كأن الافتتاح لم يقدّم مؤتمرًا، بل قدّم روحًا جديدة للأردن. روح تؤمن بأن المستقبل ليس بعيدًا، وأن البلاد التي تكافح لأجل تعليم شبابها وبناء مؤسساتها وحماية مسارها، لا يمكن إلا أن تمضي نحو مكان أفضل. كان المشهد الأخير لافتًا: شباب يودّعون سموّه بعيون تشعّ حماسًا، وخبراء أجانب يناقشون شركاءهم حول فرص التعاون، وضباط ومختصون يتبادلون الرؤى حول أمنٍ رقمي صار في صلب السيادة الوطنية. كل ذلك كان يمضي في اتجاه واحد: أن الأردن يدخل عصره الجديد بثبات، وأن ولي عهده يقوده بروحٍ تشبه ضوءًا لا يخفت، يضيء الطريق ولا يلتفت إلى الخلف.
ذلك النهار لم يكن حدثًا يُسجل في مفكرة رسمية، بل حدثًا ينحت أثره في ذاكرة وطن. وحين يعود الناس إلى بيوتهم، سيشعرون أن بلادهم اقتربت أكثر من العالم، واقترب العالم أكثر من بلادهم. وأن الصوت الذي سمعوه في الافتتاح ليس صوت خطبة، بل صوت مستقبلٍ يطرق الباب قائلًا: هذا زمنكم، فكونوا له كما يريدكم وطنكم.
وما يلفت النظر في ذلك اليوم حضور سمو الأميرة سمية بنت الحسن، التي كانت دائمًا صوت التكنولوجيا في الأردن وراعية مبادراتها الأولى، حضورًا يشبه الخيط اللامع بين الماضي والمستقبل؛ فهي شاهدٌ على رحلةٍ طويلة صنعَت فيها المعرفةُ طريقها، ودفعت فيها الأردن ليكون مركزًا للإبداع العلمي. وجودها في هذا الحدث لم يكن تفصيلًا جانبيًا، بل علامة على أن الدولة تؤمن بأن العلم هو لغة التقدم، وأن المرأة الأردنية كانت وما تزال شريكًا أصيلًا في قيادة نهضة التكنولوجيا.
كما أن حضور عطوفة مدير المخابرات العامة لم يكن مجرد مشاركة بروتوكولية، بل رسالة واضحة بأن الأمن السيبراني ليس شأنًا تقنيًا فحسب، بل محورٌ تمسّه سيادة الدولة وكرامة مؤسساتها، وأن حماية الفضاء الرقمي هي امتداد لحماية الحدود والإنسان والقرار. وجوده هناك كان بمثابة توقيعٍ رسميّ بأن الدولة بكل مستوياتها – من العلم إلى الأمن – تقف صفًا واحدًا خلف مشروع التحول الرقمي، تدرك مخاطره، وتحتضن فرصه، وتستعد له بما يليق بوطنٍ يريد أن يكون حاضرًا بقوة في المستقبل لا تابعًا له.

مواضيع قد تهمك