د. سمير صابر بينو : منهجية تحليل البيئة الوطنية
تُعدّ البيئة الوطنية بيئة ديناميكية شديدة التشابك، تتداخل فيها عوامل
متعددة يتصف بعضها بالوضوح والقابلية للقياس، بينما يبقى بعضها الآخر
غامضاً أو صعب التحديد. ويجعل هذا التنوّع من الصعب دراسة أي عنصر بمعزل عن
غيره، لأن كل مكوّن يرتبط بسلسلة من التأثيرات المتبادلة. وهذا يعني أن
التركيز على بُعد واحد لا يكفي لفهم الصورة الوطنية الكاملة.
كما تُعد
البيئة الوطنية إحدى الطبقات الأساسية ضمن البنية الاستراتيجية الشاملة
للدولة، إذ تتأثر بالبيئتين الإقليمية والدولية وبالتحولات السياسية
والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية. ولذلك يتطلّب فهمها اعتماد منهجية
تكاملية تنظر إليها كوحدة مترابطة ضمن إطار استراتيجي واسع تعمل فيه
الدولة. وتُعنى هذه المنهجية بالإجابة عن ثلاثة أسئلة مركزية: ماذا نحلل؟
ولماذا نحلل؟ وكيف نحلل؟
ورغم اتساع هذا الموضوع وتشعّبه، سأحاول
الإشارة إلى أبرز العناصر التي ينبغي تناولها عند دراسة البيئة الوطنية،
بما يقدّم رؤية مختصرة تساعد على فهم مكوّناتها الأساسية وصياغة تحليلات
أكثر شمولاً وعمقاً.
تبدأ العملية بتحديد مجالات الدراسة والعوامل
الداخلية والخارجية المؤثرة، ثم توضيح الغاية من هذا التقييم في دعم صنع
القرار وتعزيز التنمية والأمن. يلي ذلك تحديد الكيفية عبر خطوات تشمل جمع
البيانات، واستخدام الأدوات التحليلية وتقييم النتائج وصياغة السيناريوهات
المستقبلية.
وتتصف منهجية التحليل الوطني بعدة خصائص أساسية تجعلها
إطاراً فعّالاً وموثوقاً، من أبرزها: الشمول في تغطية مختلف الأبعاد،
والتكامل في الربط بين المكوّنات، والديناميكية في مواكبة المتغيرات،
والاستشراف الذي يساعد على تصور المسارات المستقبلية، إضافة إلى التحقق
(Validation) لضمان دقة النتائج، والقابلية للتطبيق العملي. وتتيح هذه
الخصائص بناء فهم عميق للواقع وصياغة توصيات قابلة للتنفيذ.
وانطلاقاً
من هذا الإطار المنهجي، تصبح دراسة البيئة الداخلية للدولة خطوة محورية
لفهم عناصر السياسة والحوكمة والأداء الاقتصادي ومستوى التماسك الاجتماعي
وكفاءة الخدمات العامة والقدرات الأمنية والعسكرية. فهذه الأبعاد مجتمعة
تشكّل ما يمكن وصفه بـ «البنية الحيوية للدولة»، وهي البنية التي تحدد
قدرتها على مواجهة التحديات واستثمار الفرص والحفاظ على الاستقرار.
وفي
المقابل، تتطلب الدراسة فحص البيئة الخارجية التي تؤثر بدورها في مستقبل
الدولة. فالعالم اليوم يتميّز بترابط متسارع للقوى الإقليمية والدولية،
وبعوامل متعددة مثل التحولات الاقتصادية العالمية والأزمات الإقليمية
والمنافسة الجيوسياسية والتطور التكنولوجي وتحديات المناخ والطاقة. ومن هنا
تأتي أهمية الربط بين الداخل والخارج لقياس مستوى مناعة الدولة أو هشاشتها
أمام المتغيرات العابرة للحدود.
ولتحقيق هذا الفهم المتكامل، تُستخدم
مجموعة من الأدوات التحليلية المعتمدة في الدراسات الاستراتيجية. ومنها
إطارPESTLE الذي يساعد في تحليل الأبعاد الكبرى، بينما يتيح SWOT الوطني
استخلاص عناصر القوة والضعف والفرص والتهديدات. كما يوفّر تحليل الاتجاهات
الكبرى (Megatrends) تصوراً للمسارات المستقبلية المؤثرة، ويمنح تحليل
أصحاب المصلحة فهماً أعمق لتوزيع النفوذ الداخلي. ويأتي تحليل التأثير
المتبادل (Cross-Impact Analysis) ليكشف طبيعة العلاقات والتفاعلات بين
العوامل المختلفة، ويقيّم كيف يمكن أن يؤثر كل متغير في الآخر وفي المسارات
المستقبلية المحتملة. أما التقييم الوطني للمخاطر (NRA) فيقدّم خريطة
واضحة للمخاطر ذات الأولوية التي تستلزم استعداداً مبكراً وإدارة أكثر
استباقية.
وعند دمج مخرجات هذه الأدوات، يصبح بالإمكان الوصول إلى
استنتاجات دقيقة توضّح التحديات الرئيسة والفرص المتاحة، والفجوات التي يجب
معالجتها والقدرات التي ينبغي تعزيزها. وفي هذه المرحلة يظهر دور بناء
السيناريوهات المستقبلية لفهم المسارات المحتملة وتقييم انعكاساتها على
الأمن والتنمية والاقتصاد.
وتكمن القيمة الحقيقية لهذا التقييم الشامل
في أنه يتجاوز مجرد تشخيص الواقع، لينتقل إلى صياغة خيارات استراتيجية تعزز
قدرة الدولة على التكيّف والصمود. فهو يقود إلى التحوّل من الاستجابة
المتأخرة للأزمات إلى إدارة المخاطر، ومن ردّ الفعل إلى التخطيط الاستباقي.
يمثّل
هذا النهج التحليلي نقطة انطلاق عملية لتطوير سياسات أكثر فاعلية، وصياغة
رؤى وطنية أكثر وضوحاً، ووضع استراتيجيات قابلة للتطبيق تتعامل مع التحديات
وتعزّز الفرص المتاحة. فهو إطار يربط بين اعتبارات الأمن الوطني ومتطلبات
التنمية المستدامة بطريقة أكثر اتساقاً، ويساعد على تحسين توجيه الموارد،
ورفع مستوى مناعة الدولة، وتعزيز قدرتها على الاستجابة للمخاطر وإدارتها
بكفاءة. ــ الدستور