الأخبار

فراس النعسان : عمى الألوان

فراس النعسان  : عمى الألوان
أخبارنا :  

لا يُولد الناس عُمياناً جميعاً، بعضهم فقط لا يرى الألوان. وما بين العمى الكامل وعمى الألوان مساحة رمادية يعيش فيها البشر أكثر مما يظنون. هناك من يرى العالم بلا ظلال، وهناك من يرى الحقيقة لكنها بلا طيف، بلا دفء، كأنها صورة قديمة فقدت لونها الأصلي.
عمى الألوان ليس مرضاً في العين بقدر ما هو عطب في الإدراك. والسياسة، كما الأدب، مليئة بالمصابين به. أولئك الذين لا يرون إلا لوناً واحداً للوطن، أو للحقيقة، أو للولاء. في عيونهم لا وجود لتدرجات الرمادي، لا مكان للأزرق الذي يرمز للسلام، ولا للأخضر الذي يرمز للحياة. العالم لديهم من لون واحد: أسود أو أبيض، معنا أو ضدنا، صالح أو طالح.
ولأن السياسة فنّ إدارة التنوع، فإن أخطر ما يصيبها هو هذا العمى الانتقائي الذي يجعل القائد لا يرى إلا من يشبهه، والمواطن لا يسمع إلا صدى صوته. حينها يتحول الوطن إلى لوحة طُليت بلون واحد، لا فرق فيها بين الشجر والتراب، بين الدم والعلم.
في الأزمنة المأزومة، يزداد هذا العمى. تتراجع الألوان أمام لغة الشعارات. اللون الرمادي يصبح تهمة، لأنه لا ينتمي إلى نقاء الأبيض ولا إلى قسوة الأسود. حتى المثقفون، الذين يُفترض أنهم حُماة الطيف، ينساق بعضهم وراء الأبيض الطاغي أو الأسود الطاغي، ويتركون ما بينهما من فسيفساء المعنى تضيع في العتمة.
في أحد حواراته القديمة، قال رسّام فرنسي إن أعظم مأساة في العالم ليست أن الناس لا يرون، بل أنهم لا يلاحظون ما يرونه. وهذا بالضبط ما يحدث في المجتمعات التي تفقد حسّ الألوان: تراه يرفع شعار الحياة، وهو في الحقيقة يحتفل بالموت؛ يرفع راية الإصلاح، لكنه لا يحتمل فكرة التغيير. يرى، لكنه لا يدرك.
العمى السياسي نوع من عمى الألوان. ترى الناس يصفقون للخطأ إذا طُلي بلون حزبهم، ويشتمون الصواب إذا خرج من فم خصمهم. لا يقيسون الموقف بميزان العقل، بل بميزان الولاء اللوني. وكأن الأوطان تحولت إلى لوحات انتخابية لا إلى كائنات حية تتنفس وتئن وتتعافى.
ففي كل ثورة، كما في كل نكسة، هناك لحظة نادرة يظهر فيها اللون الحقيقي. لحظة ينكشف فيها من يرى بعينه ومن يرى بعقله. فالعين ترى الضوء، لكن العقل وحده يميز الألوان. لهذا كانت الفلسفة دائماً محاولة لاستعادة الطيف الكامل للحقيقة بعد أن شوهته السياسة.
عمى الألوان ليس خاصية بيولوجية فحسب؛ إنه مرآة للزمن. كل عصر يخلق ألوانه المحرّمة، وألوانه المفضلة. في بعض العصور كان الأحمر لون الثورة، وفي عصور أخرى صار لون الخطر. الأزرق كان لون البحر والسماء، ثم صار في بعض الرايات رمزاً للهيمنة. حتى الأبيض لم يسلم من التلوث، فصار أحياناً قناعاً للنفاق.
وربما لهذا السبب أحب الشعراء الغروب، لأنه اللحظة التي تتعايش فيها كل الألوان قبل أن تبتلعها العتمة. الغروب ليس نهاية النهار، بل إعلاناً عن استمرارية الضوء في مكان آخر. والسياسة الناضجة تشبه الغروب: لا تحتكر الضوء، ولا تلعن الظلام، بل ترى في كل لون دوره ومعناه.
في حياتنا العامة، نحتاج إلى إعادة تأهيل البصر الجمعي، لا إلى مزيد من النظارات. نحتاج أن نتعلم كيف نرى الأحمر دون خوف، والأخضر دون غرور، والأسود دون شيطنة. فالدنيا لا تُقرأ بلون واحد، والحقيقة لا تُختزل في شعار.
فلو امتلك السياسي خيال الرسام، لأدرك أن الوطن لوحة وليست خندقاً، وأن كل لون فيها ضروري لتوازنها. ولو امتلك الرسام وعي السياسي، لأدرك أن الجمال لا ينفصل عن العدالة، وأن اللوحة التي تُقصي لوناً واحداً تصبح ناقصة، مهما كانت جميلة.
في النهاية، من يفقد حسّ الألوان يفقد حسّ الحياة. العمى الحقيقي ليس في العين، بل في البصيرة التي تُصر على أن ترى العالم كما تشتهيه، لا كما هو.
ربما يكون العلاج الوحيد لعمى الألوان هو الدهشة: تلك اللحظة التي يرى فيها المرء العالم كأنه يراه لأول مرة، فيكتشف أن الأحمر ليس عدو الأزرق، وأن الأبيض ليس سيد الألوان، وأن الجمال، مثل الحقيقة، لا يُرى إلا حين تجتمع الألوان جميعها دون خوف أو استعلاء.

مواضيع قد تهمك