د. مصطفى العدوان : الجامعة وصناعة المستقبل ربط العلم بالوطن
تلعب الجامعات دورا اساسيا ومحوريا في بناء المجتمعات الحديثة وتطوير الدول، اذ لم تعد الجامعة مجرد مؤسسة تعليمية تقليدية لتلقي العلم والمعرفة النظرية فقط، بل تحولت الى مراكز للابتكار والبحث العلمي تجمع بين العلم والتطبيق، وتعمق العلاقة بين مخرجات التعليم واحتياجات الوطن المتنوعة. ففي عالم يتسم بالتغيير السريع والتحديات المعقدة اقتصاديا وبيئيا واجتماعيا بات لزاما على الجامعات أن تمتلك رؤية استراتيجية واضحة تربط العلم بالمجتمع وتساهم بشكل فعال في تحقيق التنمية المستدامة. ومن هنا تنبع أهمية الجامعة كمؤسسة تعليمية يتعدى دورها للمساهمة في بناء الاجيال القادمة والمساهمة في رفعة وتقدم الوطن.
إن ربط الجامعة بالوطن لا يعني فقط تعليم أبنائه، بل يشمل مسؤوليات أكبر منها إنتاج المعرفة التي تلبي الاولويات الوطنية، وتطوير الابحاث التطبيقية التي تساهم بفعالية في حل المشكلات التي يعاني منها الوطن، وتأهيل كوادر متخصصة تجيد التفاعل مع احتياجات سوق العمل والاقتصاد الوطني المتجددة. كما يتعدى دور الجامعة الى تعزيز الهوية الوطنية والقيم الثقافية وتوفير بيئة تحفز على الابتكار وريادة الاعمال.
يبرز دور الجامعة أيضا في الاندماج مع المجتمع وتعزيز التنمية المستدامة إذ تشكل الجامعة المصدر الاساس للمعرفة العلمية والبحثية، حيث تجمع بين الاساتذة والباحثين والطلبة لتبادل الخبرات والمعارف في مختلف التخصصات، ولا تكتفي بتدريس النظريات بل تشجع على البحث والاستكشاف مما يثري المكتبة العلمية ويحفز الطلبة على الابداع والابتكار.
وفي هذا المقال سيتم استعراض أدوار الجامعة المختلفة في ربط العلم بالوطن، مع الاشارة الى عدد من النماذج العربية والعالمية الناجحة بما يبرز أهمية تطوير التعليم العالي لمواكبة تحديات العصر وتحقيق التنمية الوطنية الشاملة.
ولنا في العديد من جامعات الدول المتقدمة أمثلة واضحة على كونها مراكز رائدة في البحث العلمي التطبيقي ودعم ريادة الاعمال وتحويل الابحاث الى مشاريع ناجحة حيث أسهمت في خلق شركات عالمية رائدة مثل جوجل وفيسبوك وغيرها الكثير في مجالات مختلفة. فعلى سبيل المثال لا الحصر تعمل جامعة هارفرد على أبحاث طبية متقدمة حول الامراض المزمنة وتستخدم نتائج أبحاثها في تحسين منظومة الرعاية الصحية. وفي المانيا يبرز دور جامعة هايدلبرغ لتطوير صناعات محلية وتطوير منتجات ترتبط بحاجة السوق الالماني. وفي المجال العربي نفذت جامعة الملك عبد العزيز ابحاثا مبتكرة في مجال الطاقة الشمسية دعمت توجه السعودية نحو الطاقة المتجددة، كما ساهمت جامعة الملك محمد السادس في أبحاث الزراعة المستدامة وادارة الموارد المائية لمواجهة الجفاف. وفي الامارات سجلت جامعة الامارات أكثر من 300 براءة اختراع في مجالات الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة ما يعكس تنامي دور الجامعات العربية كمحركات للابتكار كمثيلاتها في الدول الاجنبية المتقدمة.
ولا شك أن العديد من جامعاتنا الوطنية الاردنية تعمل على دمج العلوم النظرية مع التدريب العملي لتهيئة خريجين قادرين على مواجهة تحديات سوق العمل الريادي والمتغير. كما أن العديد منها تبنت الاطار الوطني للمؤهلات لضمان جودة التعليم وربطه مباشرة مع ريادة الاعمال خاصة في مجالات تكنولوجيا الحاسوب وهندسة الالكترونيات والروبوتات، وتحاول جاهدة خلق بيئة تحفيزية للابتكار والابداع، كما تحاول تنظيم تواصل بين قطاعات الصناعة والخدمات والاعمال بما يعكس التزام الجامعات الوطنية بتطوير كوادر وطنية قادرة على تسخير العلم لخدمة الاردن ومواجهة التحديات التي تواجهه.
الجامعة الحقيقية في عصرنا الحالي هي التي تربط بين العلم واحتياجات المجتمع، فبرامج البحث العلمي التي تعنى بقضايا الوطن مثل الصحة والزراعة والصناعة والبيئة والطاقة وغيرها تظهر كيفية ربط العلم بالتحديات والفرص المحلية، كما تمتد خدمة الجامعة الى المجتمع عبر المشروعات التطبيقية والمبادرات المجتمعية التي تعزز التنمية المستدامة.فالجامعات عليها أن تسهم بفعالية في إعداد جيل من الشباب المؤهلين علميا وعمليا ليكونوا قادرين على مواجهة تحديات وطنهم والمساهمة في بنائه. فالخريجون الذين يتمتعون بمعرفة ومهارات متطورة يشكلون دعامة قوية لنهضة الاردن في مختلف المجالات.
نعم فالريادة والابتكار هي المحرك الاساس لتقدم الامم، والجامعة بدورها الحيوي هي المنصة التي تنطلق منها الافكار الجديدة، ومن خلال دعم البحث العلمي وتوفير بيئة محفزة للتجريب يمكن للجامعة ان تسهم في انتاج حلول عملية لقضايا التنمية الوطنية وتعزيز تنافسية الوطن على الصعيدين الاقليمي والدولي.
اضافة الى دورها الاكاديمي تلعب الجامعة دورا اجتماعيا مهما في تعزيز الانتماء الوطني والوعي الثقافي لدى الطلاب من خلال المناهج والقيم التي تربي على حب الوطن وتقدير تاريخه وتراثه كي تتشكل لدى الطلبة روح المسؤولية تجاه وطنهم، ورغبة حقيقية في خدمة مجتمعاتهم. وكمثال عالمي على ذلك تحرص جامعة مثل جامعة السوربون على تأسيس مناهج تعزز الانتماء الوثيق لتراث فرنسا وقيمها الوطنية. أي أنها تجمع بين التعليم الاكاديمي المتطور والتنمية الثقافية عبر أبحاث تهتم بالهوية الوطنية، وحري بجامعاتنا الوطنية أن تحذو حذو ذلك في مناهجها المختلفة.
في ضوء ما سبق يتضح أن الجامعة أكبر من مجرد صرح علمي تعليمي، بل هي جسر حيوي يربط بين العلم وطموحات الوطن، وبين المعرفة والتنمية المستدامة. فهي مركز فاعل في توليد المعرفة ونواة رئيسية لتخريج قادة المستقبل، ومنصة للابتكار، ورافد مهم لتعزيز الهوية الوطنية وبناء الوعي. والتجارب العالمية تؤكد أن الجامعات التي تمكنت من ربط العلم بطموحات الوطن واحتياجاته هي التي استطاعت أن تحقق طفرة نوعية في مختلف أوجه التنمية المستدامة. فبالعلم تتقدم الأمم، وبالرؤية الوطنية تستثمر الجامعات قدراتها في بناء مستقبل أفضل لشعوبها.
لذا فإن دعم الجامعات وتشجيع البحث العلمي والتعليم المتصل بالمجتمع هو السبيل الانجح لتحقيق التنمية والازدهار.إن دعم الجامعات عبر توفير الامكانات البحثية والتعليمية وتطوير البرامج التعليمية بما يتماشى مع متطلبات سوق العمل، وتشجيع البحث العلمي في مجالات الطاقة المستدامة والصحة والذكاء الاصطناعي.. وغيرها، كلها استراتيجيات ضرورية لتعزيز هذا الربط. وبالتالي فالامر يتطلب تشجيع الجامعات على خلق بيئة أكاديمية تحمل في جوهرها مبدأ خدمة المجتمع وتعزيز روح المواطنة والانتماء لينتقل ابناؤنا من كونهم مجرد طلبة جامعيين الى كون كل منهم مواطنا مسؤولا وعضوا فاعلا في بناء وطنه.
ولتحقيق رؤية وطنية ناجحة تحتاج جامعاتنا الوطنية -بالاضافة الى الدعم الوطني لتقوم بواجباتها على أكمل وجه- الى الاقتداء بالتجارب العالمية الناجحة مع تكييفها حسب الخصوصية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. ففي زمن التحولات الاقتصادية والتكنولوجية المتسارعة يتطلب الامر استثمارا جديا في البحث العلمي، وطرح برامج اكاديمية متطورة وقادرة على اعداد جيل قادر على مواجهة تحديات العصر. فالنجاحات التي حققتها جامعات عالمية وعربية تدل على أهمية هذا الربط في دفع عجلة النمو والازدهار.وربط العلم بالوطن ليس مجرد شعار بل هو التزام حقيقي ومسؤولية فردية وجماعية لمواجهة تحديات العصر ودفع مسيرة التنمية الشاملة والمستدامة لبناء مستقبل افضل للاجيال القادمة.