الأخبار

القس سامر عازر يكتب : الحفر في عقول الأبناء

القس سامر عازر يكتب : الحفر في عقول الأبناء
أخبارنا :  

القس سامر عازر

هل جلستَ يومًا تتأمل أبناءك أو طلابك أو شباب بلدك، وقلتَ في نفسك: ترى، ماذا نزرع فيهم؟ هل نتركهم يركضون وحدهم في متاهات الحياة؟ أم نحفر، بهدوءٍ ومحبّة، في أعماق عقولهم بحثًا عن بذور النور والإبداع؟

كثيرون منّا يظنون أن مستقبل الأمم يُبنى بما تملكه الأرض من ذهب ونفط وثروات، لكن هناك من جرّب طريقًا آخر. لعلّ كلمات الاقتصادي الكبير ميلتون فريدمان - الحائز على نوبل عام 1976 — تساعدنا لنرى الأمور بمنظار مختلف. حين سأله الصحفيون: ما هي أفضل دولة من وجهة نظرك؟ لم يُجب باسم بلد غني أو عظيم في مساحته، بل قال ببساطة: تايوان.

ربما تعجّبت كما تعجّبوا! فتايوان جزيرة صغيرة، أرضها صخرية، تكاد تخلو من الموارد الطبيعية، وتستورد حتى الرمل والحصى. ومع ذلك، فهي من أغنى دول العالم من حيث الاحتياطي المالي حيث حققت معجزة اقتصادية جعلتها تحتل المرتبة الرابعة عالميًا في الاحتياطي المالي. كيف؟ لأنهم قرروا أن يحفروا في عقول أبنائهم بدل أن يحفروا في الأرض. آمنوا أن الإنسان هو المورد الوحيد الذي لا ينضب، وأن كل ما يُستثمر فيه يعود بأضعاف لا تُقاس.

هل فكّرت يومًا أن ابنك هو أثمن من منجم ألماس؟ وأن الطالبة في صفّك قد تحمل في عقلها مشروع نهضة؟ أن المعلم الذي يقف كل صباح أمام العشرات من العيون اليافعة هو في الحقيقة مهندس حضارة؟

ميلتون فريدمان قالها بصدق: الدول التي تنفق على خلق المعلم الناجح، وعلى تربية الأبناء بزرع الجدّية والإبداع فيهم، هي الدول التي ستقود العالم، لا تلك التي تملك النفط أو الذهب فقط. لأن المستقبل لا تحدّده الجبال، بل العقول التي تفكّر في كيفية عبورها.

كم نحتاج اليوم إلى هذه البوصلة الروحية. كم نحتاج إلى أن نعيد النظر في أولوياتنا، لا كدول فقط، بل كأهالٍ، ومربّين، ومجتمعات. ليتنا نرى في الطفل القادم إلى المدرسة فرصةً جديدة، لا عبئًا ماديًا. ليتنا ننظر إلى التعليم، لا كواجب حكومي، بل كوصيّة مقدّسة نؤديها أمام الله والضمير والتاريخ.

فلنحفر، نعم… لكن ليس في باطن الأرض بحثًا عن المعادن، بل في باطن الإنسان بحثًا عن المعنى، عن الرسالة، عن القيمة التي لا تصدأ. لنجعل من التعليم فعل إيمان، ومن المعلم صانع أمل، ومن الأبناء مشروع أمة قادمة.

فالثروات قد تُنهب، والآبار قد تجف، ولكن العقل إذا نضج، والروح إذا اشتعلت، تصير الدولة نورًا لا يُطفأ.

مواضيع قد تهمك