المراكز الصحية.. من التوزيع المتقارب إلى التمركز الذكي

إعداد: د. عادل محمد الوهادنة
النقاط الرئيسية الموسعة والشاملة:
في الأردن أكثر من 560 مركزًا صحيًا تتوزع على شكل (شامل، عادي، متوسط، فرعي)، تغطي 12 محافظة وأكثر من 50 لواءً، لكن بكثافة توزيع تفوق المعدلات المقبولة عالميًا دون انعكاس واضح على جودة الخدمة.
* بعض المراكز الصحية في المملكة لا تبعد عن بعضها سوى 3 إلى 5 كيلومترات، ما يؤدي إلى تكرار الخدمة وضعف الكفاءة.
* نحو 360 مركزًا صحيًا تعتبر من النمط العادي أو المتوسط، وهي تعاني في معظمها من ضعف الأداء، محدودية الكوادر، وقلة مراجعيها.
* تشير تقارير وزارة الصحة إلى أن أقل من 30% من هذه المراكز تحقق معدل مراجعة يومي يتجاوز 40 مراجعًا.
* بعض المراكز لا تستقبل أكثر من 10 مراجعين في اليوم، مما يطرح تساؤلات جادة حول جدوى استمرار تشغيلها.
* كلفة تشغيل المركز الصحي العادي الواحد تقارب 120 ألف دينار سنويًا، في حين تصل الكلفة الإجمالية السنوية لهدر المراكز الضعيفة إلى أكثر من 10 ملايين دينار.
* في المقابل، تسجّل المراكز الصحية الشاملة الكبرى في عمان وإربد والزرقاء معدل مراجعة يومي يصل إلى 300-350 مراجعًا.
* عدد كبير من المراكز العادية تفتقر إلى مختبرات، أجهزة أشعة، نظام ملفات، أو حتى غرفة طوارئ بسيطة.
* الإنصاف الجغرافي لا يعني العدالة الصحية: القرى النائية تحصل على مراكز قريبة لكنها محدودة الخدمة، في حين يحصل سكان المدن على خدمة شاملة أكثر جودة.
* تجربة دول أوروبية أظهرت أن تقليص عدد المراكز الصغيرة ودمجها في مراكز شاملة خفّض الكلف التشغيلية بنسبة 38% ورفع الرضا العام بنسبة 41%.
* في إحدى الدول الآسيوية المتقدمة، تم إنشاء مراكز شاملة تغطي كل منها 20,000 – 25,000 مواطن خلال زمن وصول لا يتجاوز 15 دقيقة، مما أدى إلى خفض الإحالات الطارئة بنسبة 22%.
* في دول نامية، أدى دمج 3 – 5 مراكز صغيرة في مركز شامل واحد إلى رفع كفاءة الخدمة بنسبة 47% وخفض معدلات الأمراض المزمنة غير المشخصة.
* الدول التي تبنّت النموذج المدمج اعتمدت على نظم المعلومات الجغرافية (GIS) لتحديد نقاط التغطية، والربط الرقمي بين المركز والمستشفى، وتوزيع الكوادر بحسب الحاجة لا الموقع.
* استمرار الوضع الحالي في الأردن يؤدي إلى تكرار القوى العاملة، ازدواجية الخدمات، غياب التكامل، وهدر الإمكانات.
* المراكز العادية تُحيل كثيرًا من الحالات إلى المستشفيات بسبب غياب الأدوات التشخيصية والتخصصات، مما يزيد العبء على أقسام الطوارئ بنسبة ملحوظة.
* ملف المريض غالبًا ما يكون ورقيًا وغير متصل بأي سجل صحي وطني، مما يعوق المتابعة، ويضاعف الأخطاء الطبية.
* إعادة الهيكلة المقترحة لا تعني إغلاق الخدمة، بل نقلها إلى نموذج أكثر تكاملًا وكفاءة وإنصافًا عبر مراكز شاملة مدعومة.
* نموذج التمركز الصحي الذكي المقترح يدعو إلى إنشاء 200 مركز صحي شامل بحلول عام 2030، بربط رقمي، وتوزيع جغرافي ذكي، وتكامل مع القطاع الخاص.
* يمكن لهذا التحول أن يخفض كلفة التشغيل الإجمالية السنوية بمقدار 7 ملايين دينار على الأقل، مع رفع مؤشرات الإنصاف الصحي.
* السياسة المقترحة تشمل تقييم شامل للمراكز، تصنيف وظيفي دقيق، إعادة توزيع الكوادر، اعتماد الملف الصحي الموحد، وإشراك المجتمعات المحلية.
* التغيير يتطلب قرارًا سياسيًا جريئًا، إرادة تنفيذية واضحة، وشراكة مجتمعية واعية بأن الخدمة الأفضل ليست الأقرب مسافة بل الأكثر كفاءة.
مقدمة:
الحاجة إلى مراجعة جوهرية
منذ بدايات التأسيس، حرص الأردن على نشر المراكز الصحية في كل لواء وقرية، في محاولة لضمان الوصول العادل إلى الرعاية الصحية. هذه السياسة كانت فعالة في فترات ما قبل التحضّر، حينما كانت المسافات والطرق تمثل عائقًا حقيقيًا، وكان تواجد الطبيب مطلبًا رمزيًا وخدميًا. اليوم، ومع تغير الديناميكيات السكانية، واختلاف أنماط الأمراض، وتوفر وسائل النقل والتكنولوجيا، بات هذا الانتشار بحاجة إلى إعادة نظر.
أصبح السؤال أكثر واقعية من أي وقت مضى: هل من المجدي استمرار هذا النمط المبعثر من المراكز؟ أم أن الوقت قد حان للتحول إلى نمط أكثر تكاملاً وفاعلية؟
قراءة في الأرقام الأردنية
* إجمالي عدد المراكز الصحية في الأردن يبلغ أكثر من 560 مركزًا (شاملة، عادية، متوسطة، فرعية).
* نحو 360 منها تعتبر عادية أو متوسطة وتُكرر في كثير منها الوظيفة والخدمة.
* توجد حالات تتكرر فيها 3 مراكز في محيط دائرة قطرها 5 كم، خصوصًا في بعض المناطق الزراعية أو المجمّعات السكانية المتفرقة.
* معدل المراجعين اليومي لبعض المراكز لا يتجاوز 15 مراجعًا، في حين تصل بعض المراكز الشاملة في عمان وإربد إلى أكثر من 300 مراجعة/يوم.
* تُقدَّر الكلفة التشغيلية السنوية للمركز الصحي العادي الواحد بما بين 100,000 – 130,000 دينار أردني، تشمل أجورًا وكهرباء وصيانة، دون تضمين كلف التحاليل أو العلاجات.
* إذا علمنا أن بعض هذه المراكز تقدم خدمات لا تتعدى 3 ساعات يوميًا، فإن الهدر المؤسسي والاقتصادي يصبح واضحًا.
** مقارنة دولية معمّقة: أين نقف؟.
** مقارنة مع الدول المتقدمة:
* في دولة أوروبية ذات كثافة سكانية مقاربة، تم خفض عدد المراكز الصحية من 1,400 إلى 540 مركزًا شاملًا، بدمج وحدات تقليدية قريبة ضمن ما يُعرف بـ»Community Health Hub».
* هذه الخطوة أدت إلى خفض كلف التشغيل بنسبة 38%، وزيادة مؤشرات الرضا الصحي بنسبة 41%، وتقليص الإحالات غير الضرورية للمستشفيات بنسبة 22% خلال 3 سنوات فقط.
* في ولاية أمريكية ذات طبيعة جغرافية متنوعة، تم تطوير مراكز شاملة قادرة على تغطية 30,000 شخص في دائرة زمنية 20 دقيقة، مع ربطها بخدمات إسعاف ذكي وخط طوارئ رقمي، مما أدى إلى خفض عبء الطوارئ في المستشفيات بمقدار 19%.
مقارنة مع دول نامية:
* في إحدى الدول الإفريقية ذات تحديات لوجستية مشابهة، تبنت وزارة الصحة هناك سياسة «التجميع الخدمي»، فتم تحويل 120 مركزًا تقليديًا إلى 40 مركزًا صحيًا شاملًا، مدعومًا بخدمة صحية متنقلة مرتين أسبوعيًا.
* النتيجة كانت زيادة الكفاءة التشغيلية بنسبة 47%، وتغطية وقائية ضد الأمراض المعدية تجاوزت 95% بعد عامين من التحول.
* ما يُستنتج من هذه النماذج أن كفاءة الرعاية الأولية لا تعتمد على عدد المباني، بل على جودة الخدمات، نوعية الكوادر، ربط الخدمات بالتكنولوجيا، واستغلال الموقع الجغرافي بذكاء.
التأثيرات السلبية للتوزيع المتشرذم.
* ضعف التكامل الطبي: المريض يزور المركز لأخذ مسكن أو متابعة ضغط فقط، ولا يجد مختبرًا، ولا طبيب أسرة، ولا خدمة نفسية، مما يحيله إلى المستشفى مباشرة.
* هدر الكوادر: بعض المراكز يعمل فيها طبيب واحد بدوام جزئي، دون ممرضين متخصصين أو دعم فني، مما يهدر قدراته ويستنزف المنظومة.
* نموذج بلا ذاكرة صحية: معظم المراكز الصغيرة لا تمتلك نظام ملف صحي رقمي، ما يعوق المتابعة الطويلة الأمد.
* غياب الجدوى الصحية والاقتصادية: الهدر المؤسسي يتراكم، والخدمة لا تحقق الحد الأدنى من «الطب المجتمعي الفاعل».
المقترح: خارطة التمركز الصحي الذكي.
* الرؤية:
تحويل شبكة المراكز الصحية من التوزيع العشوائي المتقارب إلى منظومة مترابطة قائمة على مراكز شاملة ذكية.
* عناصر التحول:
1.تقليص عدد المراكز التقليدية المتقاربة بنسبة 50% تدريجيًا خلال 5 سنوات.
2.تحويل هذه الموارد إلى 200 مركز شامل موزّع وفق خرائط GIS وتحليل كثافة الأمراض ونمو السكان.
3.ربط كل مركز شامل بنظام إلكتروني مع المستشفيات المرجعية، وامتلاكه ملفًا صحيًا موحدًا.
4.تحويل بعض المراكز المتوسطة إلى وحدات متنقلة أو فرق صحية مجتمعية.
5.إطلاق «مركز اتصال وطني» لربط المرضى بخدمة صحية رقمية (استشارة – موعد – إحالة).
6.إعادة توزيع الكوادر الصحية وفق التخصص والمنطقة، وليس وفق الحصة الإدارية.
== ورقة سياسات مقترحة: نحو عدالة ذكية في توزيع الرعاية.
عنوان السياسة: تحول هيكلي لمنظومة الرعاية الصحية الأولية في الأردن نحو نموذج التمركز الصحي الذكي 2030.
مرتكزات السياسة:
* تقييم شامل للمراكز الصحية بناء على الأداء، عدد المراجعين، ونوعية الخدمات.
* إعادة هيكلة الشبكة ضمن ثلاث طبقات (شامل حضري – شامل شبه حضري – وحدة مجتمعية متنقلة).
* اعتماد ملف صحي موحد وربط تقني مباشر بالمستشفيات.
* إشراك المجتمعات المحلية في تصميم خريطة الدمج لضمان القبول الاجتماعي.
* إعداد خطة تدريجية على 6 سنوات، تبدأ بمحافظات الشمال والجنوب حيث التوزيع أكثر تكرارًا.
* الهدف النهائي: خفض عدد المراكز دون المساس بالتغطية الجغرافية، ورفع مستوى الخدمة وجودتها، وتخفيض الكلف التشغيلية بنسبة 30%.
خاتمة تحليلية:
ما نعيشه اليوم من تشرذم في توزيع المراكز الصحية في الأردن لا يمكن التعامل معه كأمر واقع أو خط أحمر، بل هو تحدٍّ بنيوي يجب التعامل معه كأولوية إصلاحية لا تقل أهمية عن ملفات التعليم أو الاقتصاد.
إن تحويل هذا التشرذم إلى نقطة قوة ممكن فقط إذا توافرت الإرادة السياسية، والقرار الإداري الجريء، والرؤية المجتمعية الداعمة. لم يعد المواطن يبحث عن بناء صغير يحمل لافتة «مركز صحي»، بل عن خدمة إنسانية متكاملة، تحترم وقته، وتُشخّص مرضه، وتُتابع ملفه، وتربطه بطبيب الأسرة وليس بطبيب الغياب.
لقد أثبتت التجارب أن الخدمة الصحية الشاملة، حينما تتكامل مع الحوسبة والتمركز الجغرافي المدروس، تصبح أداة عدالة لا رفاهية. وعليه، فإن ما هو مطلوب اليوم ليس تكثير الأبنية، بل إعادة توزيع الذكاء الصحي في المكان الصحيح، بالكوادر الصحيحة، عبر نظام رقمي متماسك.
والأردن، بما يملكه من إرث مؤسسي وقدرة بشرية نوعية، مؤهل ليقود هذا التحول في الإقليم، شرط أن نُعيد رسم الخريطة لا على الورق، بل على أرض الواقع الطبي والإنساني.
المراجع:
* وزارة الصحة الأردنية، تقرير الأداء السنوي 2024.
* خطة التحول الوطني للرعاية الصحية الأولية، 2022–2030.
* استطلاع رضا المواطنين عن خدمات الرعاية الصحية، دائرة الإحصاءات العامة 2023.
* تقارير ديوان المحاسبة، 2021–2023.