هزاع البراري : لا متكأ للأردن غير نفسه

منذ سقوط بغداد 2003 والشرق الأوسط يدخل في دوامة تحولات وأحداث جسام، لم يصبح شرق أوسط جديد، فلا شيء ناضج ولا تحول ناجز، سواء باتجاه السوء أو الأفضل، وكأن الإرباك وعدم اليقين السياسي والعسكري هو السمة الراسخة والأكثر وضوحا، لا التحالفات بقيت ذات التحالفات، ولا ركائز الشرق الأوسط بقيت كما كانت، فمنذ أن أنشب "الربيع العربي" أنيابه في عضد هذه الأمة، حتى وجدنا أنفسنا في حالة تيه متعددة الطبقات، ومازالت الآثار السلبية لتلك المرحلة تنبت كلما هبت رياح أزمة جديدة أو تعرضت المنطقة لهزة هنا وزلزال هناك نعرف مقدماته ولا ندرك نواتجه،كم هي قاصمة للظهر ومساهمة في خروج المنطقة من عوامل الاستقرار والتنمية والنماء.
الأردن أكثر الدول تأثرا فدائما ما يجد نفسه في دوامة أحداث لم يكن شريكا فيها، لكنه أكثر من يعاني سياسيا واقتصاديا وأمنيا، وتتعرض موارده الاستراتيجية للضغط مثل الطاقة والمياه والبنى التحتية، بسبب موجات اللجوء والتحديات الأمنية في الداخل وعلى الحدود، وتوقف السياحة وسلاسة سلاسل التوريد، ناهيك عن أبواق التحريض والتشكيك بأبواق داخلية وخارجية ممولة أو مرتهنة لمشاريع وأجندات خارجية وغير وطنية، هو قدر الجغرافيا السياسية ومواقف الأردن المبدئية التي لا يخشى ثمنها مهما ارتفعت كلفتها، ولا يختبئ وراء النأي بالنفس وإغلاق الأبواب بوجه الضعفاء والملهوفين، قدره أن يتلقى نواتج أزمة لم يفتعلها فهو لا يفعل ما من شأنه أن يدخل بؤرة الشرق في صراعات ونزاعات مهلكة، وهو المكتوي بنارها دوما.
نعم غاب التضامن العربي بشكله الكلاسيكي منذ مطلع الألفية الجديدة، وتراجعت التحالفات الإقليمية، حتى أن جامعة الدولة العربية تضررت كثيرا نتيجة هذا الواقع الجديد، وفقدت جزءا كبيرا من فعاليتها، معاهدات دفاع عربي مشترك، لا انسجام سياسي في شرق المتوسط نتيجة أحداث كبرى غيرت وجه العراق وسوريا ولبنان إلى حد ما، ومصر خرجت من توابع الربيع العربي، لتكون بمواجهة تحديات داخلية وإقليمية مثل الأزمة الاقتصادية، وسد النهضة وما يجري على الساحة السودانية، وبالتأكيد أن السابع من أكتوبر وما نتج وينتج عنه يشغل مصر كثيرا، ولا ننسى أن حالة عدم الاستقرار في ليبيا يضع مصر أيضا وسط تحديات أمنية وسياسية تتطلب مزيد من اليقظة.
إن تصرفات إسرائيل في الضفة الغربية، والحرب اللإنسانية واللاقانونية في غزة، ونظرة الأردن إلى السلام معها باعتباره سلام "موميائي" ولا حياة فيه سوى ملامح يابسة، يجعل من الأردن الاستراتيجي يدرك أنه لن يجد متكأ آمن له غير نفسه، هو من يمتلك البوصلة وسط هذه الفوضى العارمة، ويعي أن تمتين الجبهة الداخلية ورص صفوفها، وتنقيتها من خلال كشف مخططات بعض قوى الداخل المعروفة بولاءاتها الخارجية وعدم إنتمائها الصادق للقضايا والمصالح الوطنية، وضرورة محاسبتها قانونيا وسياسيا، وتفعيل سيادة الدولة الأردنية على حدودها البرية والجوية والبحرية، وإيجاد جبهة إسناد إعلامية ثقافية صلبة وفاعلة، للذود عن الأردن في مواجهة حملات الإساءة المبرمجة والممولة ضد الأردن وتاريخة ومواقفه، وملاحقة حتى الأصوات المنفردة التي تنعق بالإفتراء والتلفيق والتزوير من أجل التشكيك بالأردن الرسمي والشعبي، بقصد الإساءة والتشويه ملاحقة قانونية ليكون القضاء هو الفيصل بيننا وبينهم.
نعم الأردن خلال العقد الأخير أثبت أنه قادر على أن يتكئ على نفسه، وأن يواصل مسيرته في مختلف المسارات تحديثا وتجديدا وتنمية، فقد أصبح أكثر قدرة على التكيف المستمر، وأكثر مرونة في مواجهة التحديات التي لا تنتهي، ويبقى صوت الإعتدال الأردني سياسيا ودبلوماسيا الأكثر وضوحا، والأقدر تأثرا في السياسة العالمية، ممثلة بحضور جلالة الملك عالميا، فمن خلاله يتجلى الأردن بضميره الإنساني ومنظومته الأخلاقية العالية، فيضع كل ذلك مرآة صادقة لا تقبل التأويل أمام العالم برمته.