الأخبار

د. محمد رسول الطراونة : "هظاك" المرض: بين الوصم والأمل وضرورة المواجهة

د. محمد رسول الطراونة : هظاك المرض: بين الوصم والأمل وضرورة المواجهة
أخبارنا :  

(هظاك) أو ذاك المرض الذي يتجنب الكثيرون في مجالسهم تسميته، خوفًا من أن ينطقوا اسمه فيتجسد ويشيع صيته! كأنهم باستخدام اسم الإشارة البعيد "هظاك" قد أقاموا سدًّا منيعًا، أو ألقوا بتعويذة تمنع اقترابه، همسًا يُطلقون عليه "الخبيث"، بشفاه شبه صامتة، متجنبين لفظته الملعونة: السرطان، ولا لوم عليهم، فهو خبيثٌ يراوغ التشخيص والعلاج، ويتنكّل بالأجساد طويلاً. تصوّرٌ سادَ في الماضي – ولا يزال عند البعض – قاصرٌ عن حقيقة المرض، لا يرون فيه سوى نذير موت، وكأن الحديث عنه يُجلب عدواه، وكأن مريضه محكومٌ عليه بالعزلة والعدّ التنازلي.

 

نعم،إنه السرطان، الكلمة الأكثر لعنةً في قاموس الضاد. عندما يُصاب به أحدٌ، تتردد عبارات الشفقة: "مسكين.. معه الخبيث"، "معه ذاك المرض". يُذكر تلميحًا لا تصريحًا، وكأن مجرد النطق به مُعدٍ! يُحصون محاسن المصاب وكأنه انضم لصفوف الراحلين، وكأن شفاءه مستحيل ونهايته محتومة.

 

لكن الحقيقة المُشرقة "هظاك" المرض الذي يُخصّص العالم يومًا له في الرابع من شباط من كل عام، لرفع الوعي بمخاطره عبر الوقاية، والكشف المبكر، والعلاج، وإظهار الدعم للمرضى، ودعم الإجراءات الوقائية والتوعوية، انه يمكن تجنب حوالي40% من حالات السرطان باتباع نمط حياة صحي: غذاء متوازن، وزن مثالي، رياضة منتظمة، والإقلاع عن التدخين -المسؤول وحده عن 22% من وفيات السرطان! - إضافةً للفحوصات الدورية للكشف المبكر.

 

نحن في الأردن محظوظون بوجود بنية تحتية طبية متقدمة في مكافحة هذا الداء: مؤسسة الحسين للسرطان، ومركز الحسين للسرطان، بالإضافة إلى مركز دروزة التابع لوزارة الصحة، والخدمات الطبية الملكية، والمستشفيات الجامعية، واخرى في القطاع الخاص، تكرس جهودها لإنقاذ الأرواح من خلال تقديم أفضل علاج شمولي، ونشر التوعية بأهمية الكشف المبكر والوقاية، هذه المراكز تمثل خط دفاعنا الأول.

 

وتتويجًا لهذه الجهود، تُعَد الاتفاقية الأخيرة لتأمين مرضى السرطان - التي تم الإعلان عنها مؤخرًا - نقلةً حاسمة في معركتنا ضد هذا الداء اللعين. فهي تمثل حلقة الوصل الحيوية بين توفر العلاج المتقدم والقدرة على تحمل تكاليفه، وتضمن حماية المرضى وعائلاتهم من الإرهاق المالي الذي غالبًا ما يرافق رحلة العلاج الطويلة، بتوفيرها تغطية شاملة تزيل عقبة التكلفة، تُصبِح البروتوكولات العلاجية الدقيقة والمتابعة المستمرة في متناول الجميع، مما يرفع معدلات الالتزام بالعلاج والشفاء. هذه الاتفاقية ليست مجرد بند مالي، بل هي إعلانٌ عملي عن تكافؤ الفرص في الوصول للرعاية، وبصمة إنسانية تُعيد الطمأنينة إلى قلوب المرضى وتُمكّنهم من التركيز على شفائهم دون رهبة المصارع المادية.

 

أحبتنا الأبطال، مرضى السرطان، جميلٌ أن نخاف الموت ونستعد له، ولكن لا تتركوا الحزن يُسيطر. تذكروا: "الأجل بيد الله وحده". شدة المرض لا تعني قرب الأجل، كما أن الصحة لا تعني بعده. وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله:

 

فكم من صحيح مات من غير علةٍ وكم من سقيم عاش حينا من الدهر.

 

نعلم أن الألم كبير، لكن الأمل أكبر، نعلم أن نظرات الشفقة وكلام الناس قد يُتعبكم أكثر من المرض ذاته، لكن تذكروا: ذاك المرض لا يعني انتهاء الحياة، بل هو باب جديد للتحدي والأمل"،غريزة البقاء فينا قوية، ثقوا بالله، واضربوا على قلوبكم لتطمئنوا، القرب منه هو النجاة، وهو القادر على قلب الحال في لحظة، لا تقفوا مكانكم. انهضوا، وافعلوا ما تحبون، لا تؤجلوا عمل اليوم إلى الغد، وتمسكوا بحكمة ابن سينا: الوهم نصف الداء، والاطمئنان نصف الدواء، والصبر هو أول خطوات الشفاء.

 

إخوتي وأخواتي في رحلة العلاج، بجانب التكنولوجيا الطبية العظيمة، قوة إرادتكم وتفاؤلكم هما أنجع سلاح في معركتكم ضد السرطان وتحديات العلاج. اليأس يُثبط ويُفاقم، أما التفاؤل فيُعزز المناعة ويحسّن النتائج بشكلٍ يفوق أحيانًا توقعات الأطباء! تمسكوا به.

 

أخي المواطن: لتعلم بأن الكشف المبكر ينقذ أرواحًا، و ليعلم كل منا: بأن السرطان يتفاقم عند اكتشافه متأخرًا، حيث يصعب علاج الضرر الحاصل. أناشدك أن تزيد معرفتك بعلامات الإنذار المبكر للسرطانات الشائعة (كتغيرات الثدي، أو نزيف غير طبيعي، أو سعال مستمر، أو تغيرات في عادات الإخراج، أو ظهور كتل...). وان تُبادر فورًا بإجراء الفحوصات الدورية الموصى بها لعمرك وجنسك (كالماموغرام، فحص عنق الرحم، فحص القولون...). وان لا تتردد أبدًا في طلب المساعدة الطبية المتخصصة عند أدنى شك، الوقت هنا هو الفارق بين الحياة والموت.

 

أما ندائي لأولي الأمر في وزارة الصحة وشركائها: حان الوقت لتبني استراتيجية وطنية شاملة لمكافحة السرطان والتركيز على تحديد أولويات برامج الفحص والكشف المبكر على مستوى المملكة، سارعوا بتنظيم هذه البرامج وتطويرها، وأعملوا على ضمان إتاحتها بشكل عادل وميسّر لجميع المواطنين في كل المحافظات، هذه الاستراتيجية ستكون بمثابة استثمار في صحة شعبنا واقتصاد وطننا.

 

خاتمة الكلام، هظاك" المرض -السرطان - ليس قدرًا محتومًا، إنه تحدّ نواجهه بالعلم، والأمل، والإرادة، والعمل الجماعي، فلنعمل معًا، أفرادًا ومؤسسات، على سد اية فجوة في الرعاية الصحية لهذه الفئة من المرضى وكل المرضى، وان نعمل على مواجهة الوصم بالوعي، وتبديد الخوف بالكشف المبكر، وبناء غدٍ أكثر صحةً لأردننا. فهل نبدأ؟.

مواضيع قد تهمك