جهاد المومني : الدرس الأردني للعالم

في كلمته أمام البرلمان الأوروبي قال جلالة الملك: « كيف يعقل لإنسانيتنا أن تسمح بأن يصبح ما لا يمكن تصوره أمرا اعتياديا؟ أن تسمح باستخدام المجاعة كسلاح ضد الأطفال؟ أو أن تسمح باستهداف العاملين في القطاع الصحي والصحفيين والمدنيين الذين يبحثون عن الملجأ في المخيمات؟ «
أنصت نواب المجتمعات الأوروبية بخشوع للعبارات العميقة التي تضمنتها كلمة جلالة الملك امامهم في خطاب مليئ بالحكم والدروس فوقفوا وهتفوا احتراما لقائد من الشرق يقدم للغرب درساً في مضامين ومعاني الانسانية والمأزق الذي تعانيه هذه الانسانية بفعل اسرائيل واعتداءاتها وجرائمها وبسبب غياب الحلول السياسية عن منطقتنا وعن العالم بأسره مما عطّل المبادئ السامية لما تعرف بالشرعية الدولية والقانون الانساني الذي يعجز اليوم عن كبح الجريمة ووقفها. خطاب ملكي كله تذكير بالمعاناة التي تمر بها الانسانية على مختلف الصعد، وفي مختلف انحاء العالم وخاصة في منطقة الشرق الاوسط حيث تتضاعف المعاناة وتتكرر وتتوارثها الاجيال جيلاً بعد جيل بينما العالم غافل او متغافل عما تشهده غزة من وحشية لم يسبق لها مثيل، ومع ذلك يقف عاجزاً او متواطئاً او صامتاً إزاء جرائم مثبتة بالأدلة والبراهين.
حرص جلالة الملك على تذكير الأوروبيين ان اولى هجمات اسرائيل في عام 2023 استهدفت احد المستشفيات ومع ذلك لم تقم الانسانية بما توجب عليها القيام من ادانة حازمة للجريمة لمنع تكرارها، بل صدرت البيانات تتلاعب بالالفاظ حتى لا يشار الى المجرم بكل صراحة ووضوح، وهو ما شجع اسرائيل على الاستمرار في استهداف المستشفيات والجامعات والمدارس ومراكز الايواء والصحفيين والطواقم الصحية خلال عملهم على انقاذ الناس.
ان صمت العالم على ما ارتكبته اسرائيل وما ترتكبه من جرائم جعل ما لا يمكن تصوره في السابق أمراً اعتيادياً بل واحياًناً مبرراً او مقبولاً ويدرج ضمن قواعد الدفاع عن النفس، لقد اصبحت جرائم اسرائيل في غزة امراً شائعاً لدرجة انها لا تكاد تحرك الضمائر المغيبة، ثم يأتي دور الاعلام الغربي ليجعل مما لا يمكن التعايش معه سائغاً يسهل على الانسان العادي القبول به مما شجع المجرم على التمادي ومواصلة ارتكاب الفظائع دونما ادنى شعور بالمسؤولية، فمن يفلت من العقاب مرة لا بد ان يكرر الجريمة مرات ومرات.!
والامر لا ينطبق على ما يجري في غزة فقط، فهذه هي اسرائيل تشعل المنطقة بحروبها وجرائمها على مرأى ومسمع العالم الذي لا يبدو انه يدين الفعل نفسه وانما ردود الفعل ويعطي للمجرم الفرصة تلو الفرصة بل ويمده بسبل القوة كي يواصل ما يرتكبه بلا رادع وفي هذا المفصل بالذات يتجلى النفاق الدولي في أبشع صوره، فبينما يكثر الكلام عن وقف الجريمة يتراجع العمل من اجل ذلك، وتقف الانسانية مأزومة بفعل فاعل، وهذا الفاعل ليس مجهولاً ولا مستتراً وانما يعمل في وضح النهار ولا يتردد في اشعال الحروب حيثما تطال يده، ومع ذلك فالعالم لا يريد ان يرى الجريمة الكاملة من بدايتها بل يسعى في كل مرة الى وضع بداية جديدة لها غالباً من تكون عندما تنتفض الضحية للدفاع عن نفسها بوجه اجتياح او حتلال او حصار تقوم به اسرائيل، فالجريمة لم تبدأ في السابع من اكتوبر 2023 وانما منذ عشرات السنين عندما زرع الاستعمار هذا السرطان المسمى باسرائيل في المنطقة قبل رحيله ومنحها ادوات القتل والتدمير وقدم لها الحماية كي ترتكب جريمتها دون مسائلة.
في كل مرة ومنذ سنوات طويلة يضع الملك النقاط على الحروف ويعيد التذكير بأصل الصراع وجوهره مروراً بمآسيه وتداعياته على المستويين الاقليمي والدولي، ليس هذا وحسب، ففي خطابه التاريخي في ستراسبوغ رسم جلالته خارطة الطريق نحو المستقبل الآمن الذي يعيد للانسانية قدسيتها، فاذا كان المجتمع الدولي صادقاً في توجهه لاحلال السلام والأمن في منطقتنا، فالطريق الى ذلك بيّن وسهل وممكن :
« هنالك مجالان أساسيان للعمل: الأول هو دعم التنمية، لأن ازدهار الشرق الأوسط يوفر فرصا تعود علينا جميعا بالمنفعة، ولكن كما رأينا مرارا وتكرارا، فإن العكس أيضا صحيح، فعندما ينعدم الأمل، تمتد تداعيات ذلك لتتعدى حدود الدول.
أما بالنسبة لمجال العمل الثاني، فعلينا اتخاذ إجراءات حاسمة ومنسقة لضمان الأمن العالمي. ولن يكون أمننا المشترك مضمونا حتى يتصرف مجتمعنا العالمي، ليس فقط لإنهاء الحرب في أوكرانيا، ولكن أيضا لإنهاء أطول بؤرة اشتباك في العالم وأكثرها تدميرا، ألا وهي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المستمر منذ ثمانية عقود.» ــ الدستور