د. احمد الخصاونة : من المدرسة إلى الشارع: كيف نغرس حب الوطن في نفوس أبنائنا

في زمن تتراكم فيه تحديات الحداثة، وتتسابق فيه الثقافات الوافدة لاحتلال
فضاءات العقول، تبرز مظاهر تهدد أحيانًا مفاهيم الانتماء والولاء، ويصبح من
السهل أن تضيع هويتنا بين ثقافات متعددة ومتنوعة. ولكن في قلب هذا العالم
المتغير، يظهر مشهد بسيط، لكنه عميق الرمزية. مشهد طفل في المرحلة
الابتدائية، يقف بإجلال وتقدير ليؤدي التحية للسلام الملكي. ما يميز هذا
الموقف أنه لم يكن داخل أسوار المدرسة، حيث يتوقع الجميع أن يُظهر الطالب
احترامه، بل كان في فضاء الحياة اليومية، في الخارج، بعيدًا عن أنظار
المعلمين والنظار. لم يكن هذا الفعل نتيجة لتوجيهات أو تعليمات، بل كان
نابعًا من قلب حي وضمير وطني ينبض بالولاء. في تلك اللحظة، كان الطفل هو
الوطن، وكان الوطن هو الطفل. هذا الموقف لا يعكس فقط احترامًا للسلام
الملكي، بل يمثل عودة إلى الجذور، إلى اللحظات التي يتصالح فيها الفرد مع
قيمه الأصيلة دون حاجة إلى مراقب.
إن هذا المشهد يحمل في طياته رسالة
عميقة؛ رسالة تذكير بأن الولاء لا يأتي من خلال تقاليد مكتوبة، ولا هو
محكوم بقوانين خارجية. الولاء ينبع من القلب، من الشعور بالانتماء الحقيقي.
والطفل في هذه اللحظة كان أكثر من مجرد طالب في مرحلة ابتدائية؛ كان رمزًا
للقيم الوطنية التي تبقى حية في وجدان الأجيال الجديدة، مهما كانت
التحديات. هذا السلوك الطفولي العفوي لم يكن مجرد لحظة عابرة، بل كان
بمثابة مرآة تعكس روحًا وطنية متجذرة في أعماق النفس، ومؤشرًا صادقًا على
أن القيم الوطنية الأصيلة ما زالت تنبض في قلوب النشء، رغم ما يُشاع من أن
هذا الجيل قد انغمس في عالمه الرقمي، وابتعد عن ساحة المشاعر الوطنية. لكن
ما يثبت عكس ذلك هو أن هذا الفعل البسيط كان أقوى من أي ادعاء، وكان دليلًا
ملموسًا على أن الهوية الوطنية لا يمكن أن تذبل أو تغيب بسهولة.
لقد
كان وقوف هذا الطفل اليافع، أمام صوت السلام الملكي، بمثابة وقوفه أمام
تاريخ عريق، وهوية متجذرة، وراية ترفرف عالية بكل فخر، تحمل في طياتها دماء
الشهداء، وعزيمة الأبطال، وطموحات الأجيال القادمة. كان هذا الطفل في تلك
اللحظة، أكثر من مجرد فرد صغير في مجتمع؛ كان تجسيدًا حيًا للوطن بألوانه
المتنوعة، لتراثه وتاريخه الذي لا يمكن أن يُمحى أو يُنسى، مهما تغيرت
الأزمنة وتباينت الأحداث. إن هذا الموقف البسيط يعيد التأكيد على أن
الانتماء ليس مجرد شعارات تُرفع، بل هو حالة حية تنبع من الداخل، تنمو مع
الأجيال الجديدة، وتستمر في الانتقال كإرث عزيز. وعلينا أن نتذكر دائمًا أن
لكل جيل طريقه الخاص في التعبير عن الولاء، وأحيانًا يكون التعبير الأكثر
صدقًا هو الأفعال العفوية التي لا يحتاج أصحابها إلى موجهين ليُظهروا
ولاءهم، بل تعبيراتهم تتحدث عن نفسها بكل شجاعة وصدق.
لقد أتى هذا الفعل
البسيط في مظهره، العظيم في معناه، في خضم احتفالات المملكة بعيد
الاستقلال ويوم العلم، حيث تجلت مظاهر الانتماء بأبهى صورها، وتوحدت القلوب
تحت سماء واحدة، وشارك فيها الصغير قبل الكبير، والغني قبل الفقير، لتقول
الجموع بكلمة واحدة: «نحن هنا... للوطن». في هذه اللحظة، لم يكن الحدث مجرد
احتفال تقليدي، بل كان تجسيدًا حيًا لتلاحم الشعب ووحدته، رمزًا لروح
وطنية متجددة في أرجاء المملكة.
فكم هو جميل أن تنعكس هذه الأجواء
الوطنية الجامعة على تصرفات أبنائنا، وأن نرى في كل طفل، في كل شاب، وفي كل
شخص، في البيت، وفي الشارع بريق الولاء والفخر. ففي هذا اليوم، لم تعد
التربية الوطنية مجرد حصة دراسية يُلقن فيها الطالب المبادئ، بل أصبحت
سلوكًا حيًا يُمارس في كل زاوية من زوايا الحياة، في الشارع كما في
المدرسة، في الساحات كما في القلوب. إن ما قام به ذلك الطفل يستدعي أن
تُنقل قصته إلى مدارسنا، أن تروى لتلاميذنا، وأن تُغرس كنموذج يُحتذى في
نفوسهم. فهذه القصة ليست مجرد موقف عابر، بل هي دروس حية في كيفية التعبير
عن الولاء، وكيف يكون الفخر بالوطن جزءًا لا يتجزأ من شخصيتنا، مهما كانت
أعمارنا. خاصة في هذه الأيام التي ما زالت المملكة تعيش فيها نشوة الاحتفال
بيوم العلم، ذلك الرمز الذي لا يُلامس السارية فقط، بل يرفرف في سماء
القلوب والضمائر، ويستقر في الوجدان الوطني لكل فرد من أفراد الشعب.
إنه
لشرف عظيم أن نرى القيم الوطنية تنمو وتتجذر في الأجيال القادمة، ليس من
خلال الكلمات أو الأوامر، بل من خلال الأفعال التي تأتي بشكل طبيعي. أن ترى
الطفل وهو يقف احترامًا للسلام الملكي، ليس لأن أحدًا طلب منه ذلك، بل
لأنه يشعر بذلك في أعماقه، ويعي تمامًا ما يعنيه العلم الوطني والمجد الذي
تحمله الراية. وهنا، نُدرك أن التربية الوطنية لا يمكن أن تقتصر على ساعات
محدودة في اليوم، ولا على دروس تقليدية، بل هي مسؤولية مستمرة تبدأ من
المنزل، تمر عبر المدرسة، وتنمو في المجتمع ككل. إنها شجرة تُزرع في
القلوب، وتُسقى بالحب والفخر والانتماء، ثم تثمر في سلوكياتنا اليومية.
إننا
بحاجة اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، إلى تعزيز معاني الانتماء وغرس رموز
الوطن في سلوك أبنائنا، وتوجيههم إلى أن الوطنية ليست شعارًا يُرفع في
المناسبات فقط، بل هي فكر وسلوك متكامل يُمارس في الحياة اليومية. يجب أن
ننمي فيهم شعورًا بأن حب الوطن ليس مجرد كلمات تقال، بل هو واجب وحقيقة
يتعين أن تتجسد في أفعالهم، في أقوالهم، وفي كل لحظة من لحظات حياتهم. حتى
تنمو أرواحهم على الولاء، وتتشبع أفكارهم بحب الوطن، ويصير السلام الملكي
عندهم ليس مجرد لحن يُعزف، بل نداء شرف ووعد وفاء، يتردد في قلوبهم ويتجسد
في سلوكياتهم. يجب أن نعلمهم أن هذا السلام هو أكثر من مجرد موسيقى، إنه
نبض قلوب الأجيال، ورمز للوحدة والشرف الذي يجب الحفاظ عليه.
فطوبى لمن
رباه، ولأمة ما زال في أطفالها من يقف للوطن، ولو كان وحده. إن هذا الموقف
البسيط، في ظاهره، يُظهر لنا أنه لا حاجة لعدد كبير من الناس ليؤثروا في
المجتمع، بل يكفي أن تكون هناك قلوب صادقة وأفعال صغيرة مخلصة كي تنبت في
الأرض قيم عميقة. وفي النهاية، نحن بحاجة إلى جيلٍ يعرف كيف يعبر عن حبه
لوطنه، ويشعر بأن تاريخه وحاضره ومستقبله جزء من قلبه.