اسماعيل الشريف : دعم غير مشروط

في عالم الليل الخفي، إذا تعرّضت إحدى فتيات الليل للخطر ولم يتمكن قوادها
من حمايتها، بدا ضعيفًا، مما يدفع الأخريات إلى البحث عن قواد آخر. وفي
عالم البسطات، يتولى بعض الأشخاص مهمة حمايتها من الأخطار الخارجية، سواء
من السلطات أو أصحاب المحلات أو البسطات المنافسة، وإذا فشلوا في أداء هذه
المهمة، يلجأ أصحاب البسطات إلى البحث عن حامٍ آخر.
فالهيبة عنصر جوهري في العلاقات الإنسانية، ومن أجلها يضحّي الرجال بحياتهم، وينسحب هذا المنطق أيضًا على العلاقات بين الدول.
وقد
أصبح من المعروف أن الولايات المتحدة تدعم الكيان الصهيوني دعمًا غير
مشروط، حتى وإن كان ذلك أحيانًا على حساب مصالحها. ومن المسلّم به أنه بعد
السابع من أكتوبر، لم يكن للكيان الصهيوني أن يصمد في محيط ترفضه شعوبه،
مهما وُقّعت من اتفاقيات. ويعود سبب تفوّقه إلى عامل وحيد، هو الدعم
الأميركي. ويُفسَّر هذا الدعم بعدة أسباب، منها القيم المشتركة، أو نفوذ
اللوبيات الصهيونية، أو لأن الكيان يحقّق مصالح استراتيجية للولايات
المتحدة، وجميع هذه الأسباب صحيحة ومتداخلة.
ويُضاف إلى هذه الدوافع سبب آخر:
أضرّ
الانسحاب الفوضوي للولايات المتحدة من أفغانستان عام 2021 بصورتها على
الساحة الدولية، إذ اعتبره البعض إيذانًا ببدء انهيارها، وبدأت دول عديدة
تتصرّف بناءً على هذا التصوّر، فشهدنا تمددًا لكلٍّ من الصين وروسيا في
أفريقيا، وتحسّنًا كبيرًا في علاقاتهما داخل منطقتنا. وينسحب هذا التأثير
أيضًا على الكيان الصهيوني، إذ إن أي تراجع أو ضعف يصيبه ينعكس مباشرةً على
مكانة الولايات المتحدة، بوصفها الراعي والداعم الأول له، مما يجعل أي
خسارة يتعرض لها الكيان خسارة مباشرة للولايات المتحدة نفسها.
في
السياسة الدولية، يُعدّ الانطباع شكلاً من أشكال القوة، ولا يَسع الدول
الكبرى أن تبدو بمظهر الضعف، خاصةً أمام قوى صاعدة. فالعالم أشبه برقعة
شطرنج، تحكمها الجغرافيا والانطباعات والمصالح، لا منطق الصواب والخطأ، ولا
الاعتبارات الأخلاقية.
ويُوجّه دعم الولايات المتحدة للكيان الصهيوني
رسالتين في آنٍ واحد: الأولى داخلية ، وتُقدَّم في إطار أخلاقي وأيديولوجي
وعاطفي؛ والثانية إلى الدول المنافسة، لتؤكّد أن الولايات المتحدة ما زالت
قوية ومتماسكة. أما إذا تراجعت عن هذا الدعم، فسيفسّره الخصوم على أنه مؤشر
على الانكفاء والتراجع، وسيسارعون إلى استغلاله.
وقد تحوّلت العلاقة
الأمريكية الصهيونية إلى علاقة رمزية، تحمل أبعادًا وجودية للكيان، وتتعلق
بالزعامة العالمية بالنسبة للولايات المتحدة. وقد أدرك الكيان هذه
المعادلة، وأجاد استغلالها، ففهم نقاط ضعف الولايات المتحدة واستثمرها
بمهارة. وبينما تصوّر واشنطن العلاقة بينهما على أنها علاقة بين حليفين،
نجح الكيان في ترسيخ نفسه كجزء لا يمكن الاستغناء عنه في المنظومة
الأمريكية، لا كشريك فقط، بل كعنصر ثابت في معادلة النفوذ.
وانطلاقًا من
هذه العلاقة المعقّدة، لا نتفاجأ حين نرى الكيان الصهيوني يتمرّد أحيانًا
على الولايات المتحدة، ويُقدم على خطوات لا تحظى برضاها، كمساعيه لضرب
المنشآت النووية الإيرانية بشكلٍ منفرد، ورفضه الاستجابة للضغوط الأمريكية
المطالِبة بوقف المجزرة في غزة.
وأعلم، كما تعلمون، أن الولايات المتحدة
تأمر في نهاية المطاف، والكيان يطيع. غير أن ذلك يجري ضمن إطار من المصلحة
المتبادلة، يستغله الكيان إلى أقصى حد، فيناور ويوسّع هامش تحرّكه، دون أن
يتجاوز الخطوط الحمراء التي ترسمها واشنطن.
وأنا على يقين بأن الدولة
العميقة في الولايات المتحدة تبحث عن سبل لتخفيف هذا الدعم تدريجيًا، بما
لا ينعكس سلبًا على هيبتها ومكانتها العالمية. ولعلّ تصريح ترامب، الذي
عبّر فيه عن رغبته في أن تكون غزة «أرضًا أمريكية»، يصبّ في هذا الاتجاه،
إذ يُشير إلى محاولة لإعادة تشكيل النفوذ الأميركي في المنطقة، بطريقة تضمن
المصالح دون الارتباط المطلق بعبء الكيان.