رشاد ابو داود : إلى محمد الخطايبة.. هل مت حقًا يا خال ؟!

لم تكن تحتاج الى وقت طويل لترتاح له، ولا إلى معاشرته زمناً لتحبه. كان
يكفي أن تلمس الصدق في كلامه لتتخذه صديقاً صدوقاً. تشتاق له إن باعدت
بينكما بضعة أيام. تجده بجانبك حين تحتاجه شهماً كريماً شجاعاً.
مفتاح
محبته كلمة «خالي» التي كان يقولها لك من قلبه. و»الخال أب»، كما هو متعارف
عليه عند آبائنا وأجدادنا. فهو الذي يمسك يد العروس ليخرجها إلى بيت
عريسها. وعباية الخال من أساسيات كسوة العروس.
عند محمد الخطايبة كانت
تعني لك اضافة الى الخال أيضاً أخ. ولأنه أصيل لم تكن ولا تريد أن تعرف هل
كان يعني أنه خالك أم أنك خاله، وفي كليهما قرابة وشهامة وأصالة.
تعرفت
الى محمد عند عودتي من الغربة في التسعينيات. كان مراسلاً لجريدة خليجية
ومكتبه قريباً من بيتي. كل صباح أمر عنده أتناول القهوة، نتحدث قليلاً،
وأكمل طريقي الى «الدستور» محملاً بطاقة إيجابية وأن «الدنيا لسه بخير «
طالما أن فيها مثل محمد.
توطدت علاقتنا عندما عمل مراسلاً لجريدة
«الخليج» التي كنت مساعدا لمدير التحرير فيها قبل أن أعود الى البلد. ابتعد
مكتبه عن بيتي لكني لم ابتعد عن صباحية محمد.
خال لسه ما أفطرت.. صح؟ أقول له.. صح.
راح أعملك أكلة ما بتعرفها. هسا بتعرف.
يدخل
الى مطبخ المكتب الصغير. ألحقه لأساعده وفي بالي ما هي هذه الأكلة. يفرم
حبات بندورة وراس بصل يضعها في صحن ثم يصب عليها كثيراً من الزيت وقليلاً
من الملح. يسخن الخبز. ويقول يللا. هذه « سلطة حراثين»، انتم أهل المدن لا
تعرفونها.
يقول : خال.. الفلاحين ما كان عندهم وقت للطبخ. يمدوا ايدهم
على زرين بندورة وراسين بصل من الوطاة، يفرموهم ويحطوا عليهم زيت زيتون من
زيتون الأرض. واذا تأخروا في الشغل يولعوا النار ويعملوا قلاية بندورة مع
قرن فلفل. وبعدها يحطوا ابريق الشاي عالنار.
أكلت بشهية نادرة. في ذلك
اليوم قلت لأولادي اريد أن أعمل لكم أكلة علمني ياها عمكم محمد الخطايبة.
ومنذ ذلك اليوم أدمنت وأدمنوا على سلطة الحراثين خاصة عندما يحتاروا ماذا
يعدون للعشاء بشرط أن أعدها أنا.
في مرحلة ما كنا ثلاثة كائنات ليلية،
محمد الخطايبة وخيري منصور وأنا. ينتظراني حتى أنهي عملي في « الدستور « في
ساعة متأخرة من الليل. نتجول بالسيارة في شوارع الحبيبة عمان عندما تكون
وحدها. كان بامكاننا أن نسهر كما يفعل آخرون لكننا كنا نحب البساطة،
سندويشة فلافل أو علبة سردين نفتحها على رغيف، كما فعلنا ذات ليلة على سور
أرض فارغة في الشميساني.
ربما هو الفقر القديم الكريم متجذر فينا نحن الثلاثة رغم أنه رحل منذ أصبحنا كتاباً وصحفيين برواتب محترمة.
ليست
سلطة الحراثين وحدها التي تعلمتها وعشتها مع محمد. بل أيضاً البساطة
الذكية، التواضع الواعي، الصبر المحسوب. والعروبة التي وُئدت تحت تراب
الضعف والتخاذل.
نم قرير القلب يا محمد. حسبك أنك رحلت نظيف اليد أبيض القلب.